تبدأ رحلتي مع الكتاب بأول كتاب وقع بين يدي. كان ترجمة تجارية ملخصة للكاتب الروسي تيودور دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» وكان هدية قدمها لي مدرس اللغة العربية، في المرحلة المتوسطة عام 1955 تشجيعا لي عن مساهمة رائدة في تحرير النشرة الحائطية المسرحية، آنذاك، وعلى ضوء «فانوس» منزلي التهمت الكتاب في ليلة واحدة، وأتذكر كيف هزتني أحداث الرواية واستدرجتني إلى عوالمها المثيرة، وكيف كنت أرتجف تحت مشاعر متضاربة من الذعر والشفقة وأنا أتابع الأهوال النفسية لراسكولينوف، بطل القصة، الذي ارتكب جريمة قتل سيدة موسرة «مرابية» تحت رغبة مرضية طاغية في تحقيق التفوق الذاتي على الآخر، وأحسب أن ثمة إسقاطا دفع بدواخلي الذاتية إلى الاتحاد بالعوالم القاتمة للرواية، بضغوط كنت أعانيها من شظف العيش والعوز والسخط، وربما الحسد، حيال أولئك الموسرين الذين يحيون خارج عوالم القاع، ويتمتعون بالنعم والبهجات.
أعدت قراءة «الجريمة والعقاب» مرات ومرات، كنت أحمل الكتاب معي إلى كل مكان. أفتحه لا على التعيين. من أية صفحة. ثم أغيب في مرويات البطل المتخبط في التباساته وعذاباته، وأتحاور مع معارفه من عائلة مارميلادوف، وأدخل في جدالات مع جارته «سونيا» الطيبة بوجوب العمل على مساعدة هذا الشاب الذي يتجه إلى الانتحار. كنت، أنا نفسي، بحاجة إلى مساعدة لكي أشفى من عارض راسكولينوف، وقد استرشدت، فجأة إلى «الأيام» كتاب طه حسين الشهير لينقذني من عالم دوستويفسكي الكابوسي، وشرعت أتنقل مع «البطل» الجديد، الطفل الكفيف الذي يخوض معركة غير متكافئة لينال ما حرمته الحياة منه، النور، فيحصل عليه، أو يحصل على كنزه الثمين المتمثل بالمعرفة والتأمل والتمرد، فكنت أتمثل طه حسين في خطواته الشاقة، وإن لم أكن كفيفا.
في الجامعة، في قسم اللغة العربية، وبعد عقدين من السنين، من زمن لقائي بـ«الأيام» طلب منا أستاذنا، والأديب الناقد، الراحل الدكتور علي عباس علوان، أن نكتب عن هذا «الأيام» مع سؤال: هل هو جنس من أجناس الرواية، أم من أدب المذكرات؟ وفوجئ حين ناقشته باستفاضة في فصول الكتاب الثلاث وتقصيات الكاتب في عالم «البطل» وذهبت إلى أن «الأيام» رواية تتهجى حياة كاتبها وتجاربه من زوايا مختلفة، وأتذكر أني بقيت لسنوات أحاذر الدخول في عالم تأليف الكتب وفي بالي كتاب طه حسين، من حيث متانة أسلوبه ودقة بنائه وشجاعة الأفكار التي يطرحها، في هذا الكتاب والكتب الأخرى.
في مطلع أبريل (نيسان) الحالي كنت على موعد مع حفل توقيع كتابي السابع «ناظم الزهاوي.. رجل الدولة والإصلاح»، ولهذا الكتاب قصة أخرى، فلم يكن صاحب السيرة الذي توفي قبل أربعة عقود قد ترك أثرا يتحدث فيه عن نفسه، سوى مقالات وترجمات كتبها في مقتبل حياته، وانقطع عن عالم الكتابة عقدين من السنين، فكان علي أن أتقصى كنوز تجربته، كرجل دولة وإصلاح، لدى أشخاص جايلوه وعملوا معه، وكانوا ينتشرون بين دول كثيرة، وامتد بي الأمر لأربع سنوات، كنت ألتقط فيها المعلومات من أفواه الشهود المسنين الذين يتذكرون صاحبهم بصعوبة لافتة.. وكان ثمة مكتب في هايدبارك لندن ومقهى في بيروت وفيللا في الإمارات وشقة في الأردن ومنازل في بغداد وابريل مسارح للقاءاتي بأولئك الشهود.
* صحافي وكاتب عراقي. من كتبه «انتباهات في التراث»، و«الهجرة والهجير» و«العراق.. عنف وديكتاتورية» و« ناظم الزهاوي.. رجل الدولة والإصلاح».