ليونيد بيرشيدسكي
TT

برلين وميركل ستجتازان هذا الهجوم أيضًا

يعتقد السياسيون القوميون في كل مكان أنهم يدركون تمامًا طبيعة ما حدث مساء الاثنين في برلين، عندما اقتحمت شاحنة سوقًا خاصًا لمتسوقي أعياد الميلاد؛ ما أسفر عن مقتل 12 وإصابة 50 آخرين. في المقابل، لا تتظاهر الشرطة ولا مكتب المدعي العام بعملهما بحقيقة ما جرى، حقيقة تجعلني فخورًا بالعيش في ألمانيا.
فور وقوع الهجوم، سارع الكثيرون على الفور إلى القفز إلى نتائج لا تخدم سوى مصالحهم وحدهم. من بين هؤلاء غيرت فيلدزر، زعيم «حزب من أجل الحرية» الهولندي، الذي نشر عبر «تويتر» تغريدة تحمل صورة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ملطخة بالدماء واتهمها، بجانب رئيس الوزراء الهولندي مارك روته وزعامات الوسط الأخرى، بـ«السماح للإرهاب بالدخول إلى البلاد» من خلال سياسات الحدود المفتوحة التي انتهجوها. أما الزعيمة القومية الفرنسية ماري لوبان، فقد تساءلت: «كم عدد المذابح والقتلى» الذين سنشهدهم قبل أن تقدم الحكومات على إغلاق الحدود؟ أما الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، فقال في تغريدة له: «يجب أن يغير العالم المتحضر أسلوب تفكيره»!
في ألمانيا، سارعت قيادات حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للهجرة وأوروبا إلى استغلال الحادث لمصلحتها. وأطلق ماركوس بريتزيل، أحد الزعامات الإقليمية للحزب، تغريدة قال فيها: «متى سيتوقف هذا النفاق؟ هؤلاء قتلى ميركل»! وبالمثل، شنت فراوك بيتري، وهي واحدة من قيادات الحزب، هجومًا شديدًا ضد سياسة الحدود المفتوحة باعتبارها السبب وراء دخول اللاجئين الذين نفذوا الهجوم.
في تلك الأثناء، تشبثت الشرطة الألمانية والمحققون والقيادات السياسية بالحقائق على نحو مثير للإعجاب. وخلال مؤتمر صحافي في وقت سابق، وصف وزير الداخلية توماس دي ميزير الحادث بأنه «هجوم»، لكنه امتنع عن وصفه بـ«الهجوم الإرهابي».
في وقت لاحق، أضاف المدعي العام بيتر فرانك لفظ «إرهابي»، لكنه لم يغامر بوصفه بـ«الإسلامي». وفي غضون دقائق من وقوع الهجوم، احتجزت الشرطة رجلاً أعلنت أنه مشتبه في كونه سائق الشاحنة. والواضح أن شاهد عيان لاحقه لأكثر من ميل في الوقت الذي كان يتحدث إلى الشرطة التي ألقت أخيرًا القبض عليه. واتضح أن الرجل باكستاني يبلغ من العمر 23 عامًا تقدم بطلب للحصول على اللجوء السياسي، ويعيش في واحدة من حظائر الطائرات غير المستخدمة داخل مطار تامبلهوف السابق الذي شرعت المدينة في استخدامه العام الماضي بصفته ملجأ مؤقتًا.
بطبيعة الحال، يفتقر المكان إلى المعايير الصحية المناسبة. ومع هذا، لا يزال المئات يعيشون هناك وينامون داخل أماكن دون نوافذ، والتي رغم كونها نظيفة فإن الجدران بها لا تصل إلى السقف، ويتردد فيها الصدى من أقل صوت. وكان من السهل تخيل قصة مشابهة حول حياة المشتبه فيه: أي أن يكون مر برحلة محفوفة بالمخاطر حتى بلغ ألمانيا مارًا عبر البلقان، وانتظر طويلاً حتى انتهاء العملية الرتيبة للنظر في طلبه اللجوء، وأن يكون شخصًا تعيسًا يعيش داخل مطار مهجور دون أمل في العثور على عمل وتورط في جرائم صغيرة، قبل أن يسقط ضحية للدعايات المتطرفة عبر الإنترنت ليقدم أخيرًا على تنفيذ هجوم.
إلا أن الشرطة والمحققين أعلنوا الثلاثاء أن الرجل نفى تورطه في الحادث، سلوك غير معتاد من مقاتلي «داعش»، ولم تكن أي جماعة إرهابية قد أعلنت بعد مسؤوليتها عن الجريمة. وتماشيًا مع نهجها الصريح المعتاد، حذرت جهات فرض القانون الألمانية المواطنين من أن الجاني أو الجناة ربما لا يزالون طلقاء، وامتنعت عن إطلاق أحكام مسبقة بخصوص دوافع منفذ الهجوم.
مؤخرًا، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي في ألمانيا مقطع فيديو لرجل يدفع امرأة من على سلالم مترو الأنفاق ببرلين. وكالعادة، ألقى الكثيرون باللوم على اللاجئين. وبعد أسابيع من البحث عن المشتبه فيه، ألقت الشرطة القبض على مواطن من الاتحاد الأوروبي ينتمي إلى بلغاريا؛ الأمر الذي تسبب في خيبة أمل كبيرة للقوميين الذين تحولوا إلى العويل حول أن الرجل عاش في منطقة فقيرة تسكنها أغلبية من الغجر في فارنا؛ ما يجعله في أعينهم مواطنًا من الدرجة الثانية على أي حال. وبينما استمر الجدال، اضطلعت الشرطة الألمانية بعملها بدأب ومهنية. وإذا كان منفذ أو منفذو هجوم برلين لم يلق عليهم القبض بعد، فإن المحققين سيستمرون في تجاهل كل الضجة من حولهم ويستمرون في البحث عن الحقيقة.
وتظل الحقيقة أن الأسواق أهداف سهلة، لكن الألمان سيستمرون في التدفق عليها بسبب هذا الهجوم. وإنما سيعني الأمر ببساطة تعزيز مستوى اليقظة والحذر والوجود الشرطي.
بالتأكيد، ستحزن برلين، لكنها ستمضي قدمًا مثلما كان الحال دومًا، وكذلك ستفعل ميركل.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»