الجنرال جون ماتيس.. «سيد البنتاغون» الجديد

مفكّر وعسكري متشدّد ضد إيران والإرهاب و«داعش»

الجنرال جون ماتيس.. «سيد البنتاغون» الجديد
TT

الجنرال جون ماتيس.. «سيد البنتاغون» الجديد

الجنرال جون ماتيس.. «سيد البنتاغون» الجديد

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الجنرال جيمس ماتيس (66 سنة) لشغل منصب وزير الدفاع في إدارته الجديدة. ويعد ماتيس من أبرز الوجوه العسكرية المعروفة داخل الولايات وخارجها، إذ كان قائد قوات مشاة البحرية الأميركية قبل أن يتقاعد عام 2013، بعدما كان القائد الرقم 11 في القيادة الوسطى للولايات المتحدة. وقبل ذلك قاد القوات المشتركة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) بين 2007 و2010.. كما كان قائد مشاة البحرية إبان «غزو العراق» عام 2003، وشارك ماتيس أيضًا في الكثير من العمليات في الشرق الأوسط، ويعد أحد أكثر القادة العسكريين الأميركيين فهمًا لشؤون المنطقة.
عمل الجنرال جون ماتيس، الذي وقع عليه اختيار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لشغل منصب وزير الدفاع، أكثر من أربعة عقود في سلاح مشاة البحرية الأميركية (المارينز). وهو معروف بأنه أحد القادة العسكريين الأكثر تأثيرا في جيله، والمفكر الاستراتيجي الذي تتسابق لديه انتقاداته مع عدوانيته. وهو، بصفة عامة، معروف لقادة الشرق الأوسط، وبصفة خاصة للعسكريين منهم، لا سيما أنه قام بزيارات متكررة للدول العربية. ويقول محللون إن ماتيس يحظى باحترام كبير من القادة العرب والعسكريين لأنه صريح ومستمع جيد.
من ناحية أخرى، حظي الجنرال ماتيس بألقاب متعددة في حياته العسكرية من أشهرها «الكلب المسعور» و«المحارب الراهب». واستحق الأول لبسالته وإقدامه وصراحته و.. وأحيانًا تهوره، والثاني لأنه لم يتزوج في حياته. غير أن المقربين من ماتيس يجمعون على أنه رجل حاد وخطيب مفوه وزعيم يكرس نفسه بتفانٍ لعسكرييه، حتى غدت طريقته في قيادة القوات والجنود توصف بشكل أسطوري في أوساط «المارينز». وفي المقابل، يشير آخرون إلى أن ماتيس لا يستسيغ لقب «الكلب المسعور»، مع أن ترامب مولع باللقب ويستخدمه كثيرا في تغريداته على «تويتر».
بالنسبة للتحديات الدولية الراهنة يثير ماتيس الجدل في مواقفه الحادة والصلبة من الإسلام السياسي وكيفية مكافحة «داعش» والإرهاب المدعوم من إيران. ويشدد الخبراء على أن مواقفه الحادة لا تنفي أنه يعد من أبرز القادة المؤثرين في عمليات الجيش الأميركي الأكثر أهمية خلال السنوات العشرين الماضية. إذ قاد ماتيس فرقة عمل من «المارينز» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 في غارة على قندهار في أفغانستان. ووفر لقوات الدفاع الأميركية سيطرة على الأرض في مواجهة طالبان في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
وتعد قيادة ماتيس للعمليات العسكرية خلال الغزو الأميركي للعراق 2003 من أبرز المواقف التي تعبر عن قدراته عندما قاد فرقة من «المارينز» وخاص قتالاً ضاريًا في «معركة الفلوجة الثانية» في نوفمبر عام 2004 (التي عرفت باسم «عملية الفجر»)، وتعد الأكثر عنفا في الصراع خلال الغزو الأميركي للعراق. فبعد هزيمة الجيش الأميركي في «معركة الفلوجة الأولى» في أبريل (نيسان) ضاعفت القوات الأميركية تعزيزاتها سبعة أضعاف المعركة الأولى وبلغ عدد القوات 15 ألف عسكري أميركي.
وبعد نشر تقرير للبنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) عام 2008 حول تحقيق في عمليات «المارينز» وتحركات للمركبات العسكرية في العراق، قتل خلالها 24 مدنيا عراقيا في مدينة حديثة من بينهم نساء وأطفال، ووصف شهود عيان إياها بأنها كانت معركة إطلاق نار عشوائية من «المارينز»، رفض ماتيس الكثير من التهم. وبرر يومذاك - وكان يشغل قيادة مشاة البحرية في معسكر بندلتون بولاية كاليفورنيا - رفضه تهم القتل العمد بأن «موت الأبرياء جانب لا يمكن إنكاره في الحرب، لكن في مواجهة قرارات الحياة أو الموت في بضع ثوان خلال القتال فإن الأمر يصبح واقعًا لا مفر منه».
مسيرة لافتة
تدرج جون ماتيس في الرتب والمناصب داخل العسكرية الأميركية لكنه حصل على أوراق اعتماده بوصفه مفكرًا عسكريًا بعدما شارك الجنرال ديفيد بترايوس في وضع استراتيجية عسكرية لمواجهة التحديات القوات الأميركية. وكان ماتيس من أبرز المرشحين ليتولى قيادة سلاح مشاة البحرية الأميركية عام 2010 لكن الجنرال جيمس آموس حصل على المنصب، وبعد استقالة بترايوس من منصب رئيس القيادة الوسطى - التي تشرف على العلميات العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط - حصل ماتيس على منصبه.
ثم، بعد تقاعده من الخدمة العسكرية عام 2013 عمل ماتيس زميلاً زائرًا في معهد هوفر، وهو مركز أبحاث تابع لجامعة ستانفورد. ويقال إنه تقاعد في وقت سابق بخمسة أشهر عما كان متوقعا ما أثار تكهنات تقول إنه اضطر للخروج من منصبه بعد انتقاداته اللاذعة لإدارة الرئيس باراك أوباما حول سياسات الإدارة مع إيران. وبينما نفى ذلك في حينه مسؤولون بالبيت الأبيض رفض ماتيس التعليق.
ولكن ما هو مثبت أن للجنرال ماتيس مواقف متشددة ضد خصوم واشنطن، وبصفة خاصة إيران. وسبق له أن أعلن مرارا أنه يعتبر إيران هي العدو الرئيسي للولايات المتحدة، وهو ما يوحي بأن إدارة ترامب قد تتخذ خطوات حاسمة في مواجهة إيران وتدخلاتها في شؤون المنطقة العربية. إذ سبق لماتيس أن قال في كلمة ألقاها أمام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية خلال أبريل الماضي إن «النظام الإيراني هو التهديد الوحيد والأكثر خطرًا على الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط». كذلك قال خلال الندوة إن الرئيس الأميركي المقبل سيرث «فوضى»، مشيرا إلى أن الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما العام الماضي «سيؤدي فقط إلى إبطاء طموحات إيران في الحصول على أسلحة نووية لكنه لن يوقف سعيها للحصول عليه».
وفي أعقاب فوز ترامب بالرئاسة، كان اسم جون ماتيس ضمن قائمة المرشحين بمنصب وزير الدفاع، ومعه في القائمة الجنرال ديفيد بترايوس، وإن كان ظهر ميل ترامب لاختيار ماتيس للمنصب منذ لقائهما في العشرين من نوفمبر الماضي.
وحول مدى التقارب والكيمياء المشتركة بين ترامب وماتيس يشير المحللون إلى أن ترامب انعزالي يرغب في الابتعاد عن مشاكل الناتو والشرق الأوسط على عكس ماتيس الذي يرغب في دور أكبر للولايات المتحدة، ويعد ترامب شخصا فطريا يتحدث على سجيته دون قيود بينما الجنرال ماتيس شخص يميل للتأمل والتفكير والاستماع أكثر من الكلام ويأخذ وقته قبل اتخاذ القرارات، وهو أيضا قارئ نهم للكتب وكثيرا ما كلف جنوده بمهام قراءة كتب وتقارير وتحليلات قبل تنفيذ المهمات. ويتفق ماتيس مع ترامب في أهمية إبراز قوة الولايات المتحدة. وينسب إلى الجنرال ماتيس مقولة شهيرة هي «كن مهذبا وكان مهنيا لكن لديك خطة لقتل الجميع وعليك تنفيذها».
كما سبقت الإشارة، شغل الجنرال ماتيس منصب القائد الأعلى للقوات في «الناتو» من نوفمبر عام 2007 إلى أغسطس (آب) 2010، وتركزت جهوده في تلك الفترة على تحسين الكفاءة العسكرية للحلفاء. ومعلوم أن ترامب يتبنى موقفا متحفظا من «الناتو»، وصرح خلال جولاته الانتخابية أنه حلف «عفى عليه الزمن» وطالب بإعادة النظر في التكلفة المالية التي تتحملها الولايات المتحدة في الحلف. وحول هذه النقطة يقول مسؤول سابق بالبنتاغون «إن اختيار ماتيس لمنصب وزير الدفاع اختيار ذكي، فهو محارب وباحث ومفكر ولديه قدرة على إطلاق النار بشكل متواصل بالمعني الحرفي والمجازي، ويتحدث بالحقيقة للجميع ويتوافق مع توجهات ترامب في قيادة الولايات المتحدة وتعزيز مكانتها عالميًا».
ويتابع المسؤول - الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته - أن أبرز العقبات التي تواجه الجنرال ماتيس تتعلق بمبدأ أن يتولى مدني منصب وزير الدفاع «لكن الكونغرس يمكن أن يمنحه استثناء.. وبالتالي، فالتحدي الأكبر هو التعاملات بينه وبين مستشار الأمن القومي الجنرال مايكل فلين الذي لديه وجهات نظر وأسلوب في العمل قد تؤدي إلى تصادم وصراعات، ولن يكون الأمر سهلا لوزير الدفاع القادم القيام بمهامه إذا كان لديه توتر مستمر مع العاملين في البيت الأبيض».
حول النقطة السابقة، بالفعل، يمكن أن يواجه ماتيس معضلة فنية في تعيينه في منصب وزير الدفاع بإدارة ترامب، في ظل صعوبة الحصول على موافقة مجلس الشيوخ، لأن قانون الأمن الوطني لعام 1947 يشترط أن يكون هناك فترة عشر سنوات تفصل بين ترك الشخص العسكري للخدمة العسكرية قبل توليه منصب وزير الدفاع، وجرى تخفيض هذه الفترة إلى سبع سنوات في عام 2008، ولقد أقدم الكونغرس في السابق على اتخاذ استثناء من هذا القانون بموافقته على تعيين الجنرال جورج مارشال وزيرا للدفاع في عام 1950 بتشريع استثنائي خاص، ووقتها شدد المشرعون أنه لن يكون هناك استثناء آخر للقانون. ومنذ إعلان ترامب اختياره ماتيس تنهال تصريحات الثناء من صقور العسكريين داخل الحزب الجمهوري في الكونغرس، ما يشير إلى اتجاه الكونغرس لمنحه استثناء. ولذا يتوقع المحللون أن يقدم الكونغرس ومجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية على التصويت على مشروع قانون يمهد الطريق لتبيت تعيينه بعد أن يتولى ترامب زمام القيادة في البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) المقبل.
وفي هذا الاتجاه، شدد السيناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا جون ماكين، رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ والمرشح الرئاسي الجمهوري الأسبق، أنه يتطلع لجلسة تعيين ماتيس للمنصب في أقرب وقت ممكن خلال العام المقبل، مضيفا: «أميركا ستكون محظوظة أن يكون الجنرال ماتيس في خدمتها في منصب وزير الدفاع».
كذلك صرح ماك ثورنبيري، النائب الجمهوري عن ولاية تكساس ورئيس لجنة الخدمات المسلحة بمجلس النواب، بأنه يدعم اختيار ماتيس لمنصب وزير الدفاع، وقال في بيان أصدره صباح الجمعة «إن عددا قليلا من العاملين في مجال الأمن القومي يحظون بالتقديم والإعجاب مثلما يحظى الجنرال ماتيس، واختياره لمنصب وزير الدفاع هو اختيار ممتاز».
ومن ثم شدد ثورنبيري على خطوات لمنح ماتيس استثناء من قاعدة تولي مدني لمنصب وزير الدفاع، فقال: «سأعمل مع زملائي في الأيام القادمة لتمهيد الطريق لتأكيد تعيينه من قبل مجلس الشيوخ ولا أظن أن هناك شريكا أفضل للكونغرس للعمل معه، لدعم الرجال والنساء في الجيش الذين يعملون لحماية أمن أمتنا».
في المقابل أعربت السيناتورة الديمقراطية كريستن غيلبراند، عضو اللجنة الفرعية للقوات المسلحة بمجلس الشيوخ، أنها ستعارض تعيينه، وتابعت: «أنا أحترم تاريخ وخدمة الجنرال ماتيس داخل الجيش، لكنني سأعترض على تعيينه في منصب وزير الدفاع، لأن السيطرة المدنية على الجيش عندنا مبدأ أساسي للديمقراطية الأميركية، ولن أصوت على استثناء لهذه القاعدة».
واعترضت أيضا جمعيات حقوقية ومنظمات لحقوق الإنسان على التعيين المرتقب، منها منظمة «هيومان رايتس واتش» التي قالت في بيان إنه إن تم تعيين الجنرال ماتيس «فإنه سيمارس قوة هائلة تشمل التعذيب وملء غوانتانامو بالمعتقلين الجدد المحتجزين دون تهم». وقال نورين شاه مدير منظمة العفو «الجنرال ماتيس لديه وجهات نظر غامضة ومتضاربة حول حقوق الإنسان تثير تساؤلات خطيرة يجب الرد عليها خلال عملية تأكيد تعيينه».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.