دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

الوريث الثري الذي حقّق سياسياً ما عجز عنه أبوه 5 مرات

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
TT

دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة

في عام 1998 قرّر ألفارو نوبوا صاحب أكبر ثروة في الإكوادور الترشح لرئاسة الجمهورية جرياً على عادة كبار الأغنياء الذين يشكلون الغالبية الساحقة من رؤساء تلك البلاد إلا أن الثروة الضخمة التي جمعها من تجارة الموز وعشرات الشركات التي أسسها في القارتين الأميركية والأوروبية بجانب المشروعات الخيرية الكثيرة التي يموّلها لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لم تكن كافية لفوزه في تلك الانتخابات. بعد تلك المحاولة الأولى الفاشلة عاد ألفارو ليجرب الترشح مرة أخرى عام 2002 ومن ثم كرّر التجربة 3 مرات متتالية حتى أصبح صاحب الرقم القياسي في الترشح للانتخابات الرئاسية من غير أن يحالفه الحظ في الوصول إلى سدة الحكم الأولى. ولكن في ربيع العام الماضي شغر منصب رئاسة الجمهورية في الإكوادور إثر استقالة الرئيس اليميني غيّيرمو لاسّو تحت وطأة فضائح فساد مالي، فقرّر رجل الأعمال الشاب دانيال نوبوا (35 سنة) نجل ألفارو خوض غمار المعركة الانتخابية التي انهزم فيها والده 5 مرات متتالية. وحقاً تمكّن في الجولة الثانية من الفوز على منافسته اليسارية ليصبح أصغر رئيس في تاريخ جمهورية الإكوادور ويتولى أقصر فترة رئاسية تنتهي في ربيع العام المقبل مع نهاية ولاية الرئيس المستقيل.

بدأ دانيال نوبوا ولايته الرئاسية أواخر العام الماضي بعدما هزم لويزا غونزاليس، مرشحة الحزب والتيار السياسي اليساري الذي أسسه الرئيس الأسبق رافايل كورّيا، الخصم الذي كان هزم والده 3 مرات ويعيش حالياً في المنفى فاراً من وجه العدالة التي تلاحقه بتهم الفساد واختلاس المال العام.

عندما قرّر ألفارو نوبوا التخلّي عن حلمه الرئاسي في عام 2013 بعد هزيمته الانتخابية الخامسة، كان نجله دانيال يتابع تحصيله العلمي في أبرز الجامعات الأميركية من نيويورك إلى جورج واشنطن مروراً بنورثويسترن وهارفارد، ويعدّ العدة لاقتحام المعترك السياسي الذي امتنع على والده، حريصاً باستمرار على إظهار صورة أكثر اعتدالاً وعصرية، تمشياً مع المتطلبات الاجتماعية الحديثة.

ذلك أن نوبوا (الأب) كان يجسّد حقاً صورة المرشح اليميني المحافظ المتجذّر في المعتقدات والقيم القديمة والخطاب الصدامي في وجه اليسار. أما نجله دانييل فقد حرص منذ اليوم الأول على وصف نفسه بأنه يمثل «وسط اليسار»، وأعلن دعمه للمجموعات الجنسية المختلفة والسكان الأصليين، كما أبدى اهتماماً خاصاً بالتعليم والشباب والعاطلين عن العمل. مع أن هذه الصورة التي جهد لإظهارها وساعدته على استقطاب التأييد في الأوساط الشعبية المعتدلة، لم تحجب يوماً عند المراقبين حقيقة هويته وانتماءاته السياسية اليمينية.

ثقافة وخبرة اقتصادية وتكنولوجية

يتميّز دانيال نوبوا عن والده بإلمامه الواسع بشؤون الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، وخطابه البليغ المباشر الذي كان منصّة القفزة الكبرى التي حققها في مسيرته القصيرة نحو الرئاسة، ولا سيما المناظرة التلفزيونية عشية الجولة الأولى من الانتخابات مع بقية المرشحين. والواقع أنه قبل أيام قليلة من تلك الجولة في 20 أغسطس (آب) من العام الماضي كان دانيال نوبوا خارج كل الرهانات للوصول إلى الجولة الثانية. لكن عندما أتيحت له فرصة المواجهة المباشرة مع منافسيه، وخاصة المرشحة اليسارية لويزا غونزاليس، التي كانت كل الاستطلاعات ترجح فوزها، أظهر معرفته الواسعة والعميقة بأوضاع البلاد ومشكلاتها والحلول المناسبة لها، راسماً بذلك ملامح المرشح الشاب العصري المؤهل للوصول إلى الرئاسة.

ويجمع المحللون على أن تلك المناظرة التلفزيونية، بالذات، هي التي كانت بابه إلى الفوز خارج المواجهة الغارقة فيها البلاد منذ عقود بين اليمين التقليدي المحافظ والتيارات اليسارية الكلاسيكية المتشددة. ولقد أظهرت نتائج الانتخابات لاحقاً أن غالبية الناخبين توّاقة إلى الخروج من دوامة تلك المواجهة التي شلّت العمل السياسي، وعطّلت حركة النمو الاقتصادي، وأرخت سدل العنف والفلتان الأمني، الذي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة.

بعدها، قبيل الجولة الثانية كان دانيال نوبوا يتصدّر جميع الاستطلاعات، وليس مدفوعاً فقط بالتجاوب الشعبي الواسع مع الطروحات التي قدمها لمعالجة المشكلات الاقتصادية والأمنية، بل أيضاً بسبب انحسار التأييد للتيار الثوري اليساري الذي فشلت قياداته في استعادة الشعبية التي كان يتمتع بها إبان فترة رئاسة مؤسسه رافايل كورّيا. وحقاً، تبيّن تحليلات النتائج الانتخابية أن نوبوا نجح في استمالة الشباب الذين جذبهم هذا الخيار السياسي الجديد ومقترحاته لمعالجة المشكلات الكثيرة التي تعاني منها الإكوادور... من البطالة... إلى تراجع الخدمات الاجتماعية الأساسية والهواجس الأمنية التي رفعت معدلات الإجرام إلى مستويات قياسية.

طروحات وحلول للمشكلات

معظم الطروحات التي تضمنها برنامج نوبوا الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة. فالبطالة غدت المصدر الأساسي للقلق الاجتماعي الذي يسود الإكوادور بسبب تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة أعمال العنف والسطو التي تمارسها المنظمات الإجرامية وعصابات تجارة المخدرات، حتى أصبحت البلاد من أخطر البلدان في أميركا اللاتينية.

وكمثال، دعا نوبوا إلى إصلاح نظام السجون وتشديد العقوبات على جرائم الاتجار بالمخدرات. واقترح نقل أخطر المجرمين، الذين يشكلون 17 في المائة من إجمالي المعتقلين، إلى سفن عائمة في البحر لمنعهم من مواصلة أنشطتهم داخل السجون، علماً بأن هذه السجون صارت بفعل الفساد والرشوة تمنح المجرمين المعتقلين فيها معاملة تضاهي معاملة الفنادق الضخمة وتتيح لهم إدارة عملياتهم الإجرامية. وهنا يشار إلى أن المرشح الشاب جاب البلاد إبان حملته الانتخابية مرتدياً سترة واقية من الرصاص بعد اغتيال أحد المرشحين في مستهل الحملة.

من جهة ثانية، تضمن برنامج نوبوا الاقتصادي المحافظة على التعامل بالدولار الأميركي في العقود والصفقات التجارية الرسمية، وتعهداً بجذب شركات أميركية لتصنيع منتوجاتها في الإكوادور من أجل المساهمة في إيجاد فرص العمل للعموم. وكذلك اقترح إلغاء الضرائب المفروضة على خروج رؤوس الأموال من البلاد، الأمر الذي استجلب انتقادات واسعة من خصومه الذين عدّوا هذا الاقتراح لا يعود بالمنفعة سوى على الشركات الكبرى، وتحديداً تلك التي تملكها أسرته.

معالجة الأمن أولاً

نوبوا، منذ اليوم الأول لتسلمه مهام الرئاسة أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وجد نفسه مضطراً لتنحية البنود الاقتصادية والاجتماعية في برنامجه الانتخابي - التي فعلياً كانت رافعته إلى الفوز - كي يتفرّغ للأزمة الأمنية التي أصبحت هاجس المواطنين الأساسي بعدما وقعت البلاد تحت رحمة التنظيمات الإجرامية التي تسيطر على مناطق كثيرة، بما فيها بعض أحياء العاصمة والمدن الكبرى، زارعةً الرعب بين المواطنين.

وفي مطلع عام الحالي، أي بعد شهر تقريباً من جلوس الرئيس الجديد، تابع المواطنون مباشرة على شاشات التلفزيون كيف اقتحم 10 مسلحين ملثمين استوديو إحدى القنوات، وهددوا المشاركين في البرنامج طيلة نصف ساعة قبل أن تتدخل الشرطة لاعتقالهم.

ثم بعد أيام من تلك الحادثة، نشرت وزارة الداخلية تقريراً يفيد أن عدد ضحايا العنف والاغتيالات على يد المنظمات الإجرامية خلال عام الماضي ناهز 8 آلاف، أي بزيادة 65 في المائة عن العام السابق.

في غضون ذلك، كانت 6 سجون في قبضة معتقلين مسلحين يحتجزون عشرات الرهائن داخلها، وكان أحد أخطر مجرمي الإكوادور قد فرّ من السجن برفقة 4 من حراسه بعد اعتقاله بـ3 أيام. ومن ثم، بلغت الأزمة الأمنية مستوى من الخطورة وعجز الأجهزة عن ضبطها، ما دفع البلدان المجاورة التي كانت تتابع تطورات الوضع بقلق متزايد إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المناطق المتاخمة للإكوادور، وعرض بعضها على حكومة نوبوا المساعدة في ضبط الحدود.

أمام هذا المشهد، أعلن الرئيس نوبوا حالة الطوارئ العامة في البلاد لفترة 3 أشهر. وأوكل مهام حفظ الأمن في المدن والأرياف إلى القوات المسلحة. وقرّر أن يدعو في نهايتها إلى إجراء استفتاء شعبي حول حزمة من التعديلات الدستورية، لها صلة بالأمن، أملاً في تمكين الدولة من أدوات تسمح لها بمواجهة العنف المتزايد في البلاد. وضمن هذه التعديلات تكليف الجيش صلاحيات دائمة لمؤازرة الشرطة في الحفاظ على الأمن، وتوسيعها لتمكينه من البقاء في المدن، وتعجيل طلبات استرداد المجرمين، وتسهيل إجراءات تسليمهم، وإجراء تعديلات واسعة على قانون العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعديلات أخرى لتشجيع الاستثمار الخارجي وإضفاء مزيد من المرونة على قانون العمل.

وكان قد سبق للرئيس المستقيل أن دعا إلى إجراء استفتاء مماثل مطلع العام الماضي، لكنه قوبل بالرفض بنسبة عالية. ورغم أن قانون الطوارئ الساري منذ بداية العام الحالي يعدّ البلاد في حالة نزاع داخلي مسلح، وينصّ على تكليف الجيش مهام الحفاظ على الأمن في المدن والأرياف، فإن الاستفتاء الذي طرحه نوبوا مؤخراً يهدف إلى إعطاء القوات المسلحة، وليس الشرطة، صلاحيات دستورية لوضع السياسة الأمنية والإشراف على تنفيذها، ويمهد لاستعادة الدولة هيبتها وإشاعة بعض الاطمئنان في مجتمع فقد ثقته بالمؤسسات العامة وقدرات الأجهزة على حمايته من عنف المنظمات الإجرامية .

مجازفة ناجحة... ولكن

هنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد كان يدرك أن الاستفتاء يحمل مجازفة كبيرة، من شأنها أن تقضي على حظوظه في تجديد ولايته في انتخابات العام المقبل، بيد أنه كان يعرف أيضاً أن ترك الأمور على حالها سيؤدي إلى خروج الوضع الأمني عن السيطرة، ويفقده الشعبية التي رافقته خلال الأشهر الأولى من ولايته عندما أعلن الحرب على العصابات الإجرامية. غير أن مجازفة نوبوا نجحت، فجاءت نتائج الاستفتاء لتعزز موقعه، وتطلق يده لعسكرة السياسة الأمنية من دون اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ... كما كان يحصل غالباً عند التفاقم المتكرر للأزمات.

في المقابل، نجاح الاستفتاء وموافقة المواطنين على 9 من أصل 11 اقتراحاً لتعديل الدستور وتشديد الاستراتيجية الأمنية، لا يعالج بلا شك الجذور الهيكلية للأزمة، أي التفاوت الاجتماعي العميق، وانسداد الأفق أمام المجموعات الفقيرة والمهمشة وغياب الدولة عن المناطق الأكثر تأثراً بتداعياتها.

وبناءً عليه، لا يستبعد المراقبون، في حال استمرار تدهور الأوضاع الأمنية ولجوء الحكومة إلى مزيد من الإجراءات المتشددة، بل انتهاك حقوق الإنسان، على غرار ما يحصل في السلفادور مع رئيسها نجيب أبو كيلة، أن ينقلب السحر على الساحر... ويجد نوبوا نفسه في مأزق منحى تصعيدي يصعب جداً أن يخرج منه ظافراً.يضاف إلى ما سبق أن الأزمة المفتوحة التي نشأت عن عملية اقتحام السفارة المكسيكية مطلع الشهر الماضي لاعتقال نائب الرئيس الأسبق المطلوب من العدالة، والتي تمّت بأمر مباشر من نوبوا، استقطبت إدانة واسعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتترك حكومته بلا غطاء، في حال إقدامها على مزيد من التجاوزات.


مقالات ذات صلة

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

حصاد الأسبوع بوتين جاهز للقاء ترمب (آ ف ب)

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

> غياب الانتقادات المباشرة في روسيا لأي خطوة يقوم بها الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب لا يعكس فقط رغبة الكرملين في التريث لحين إطلاق الحوار المباشر ووضع.

حصاد الأسبوع هربرت كيكل

هربرت كيكل... زعيم اليمين النمساوي المتطرف ينتظر فرصته لإحداث تغييرات سياسية جذرية

لا يحمل تاريخ نشأة هيربرت كيكل المكلّف تشكيل الحكومة العتيدة في النمسا، ارتباطاً باليمين المتطرف أو النازية، كأسلافه الذين قادوا حزب الحرية قبله. ولكن مع هذا قد يكون الزعيم الأكثر تطرفاً الذي ترأس الحزب خلال العقود الأخيرة. ذلك أن كيكل غالباً ما يكرر تعابير استخدمها النازيون، ومنذ تكليفه تشكيل الحكومة مطلع العام، بدأ يلقب نفسه بـ«مستشار الشعب»، وهو اللقب الذي كان يستخدمه هتلر لوصف نفسه. وبالتالي، في حال نجح كيكل بتشكيل الحكومة، سيكون المستشار الأول للنمسا الذي ينتمي إلى حزب متطرف أسسه عام 1955 أعضاء في «قوات الأمن الخاصة النازية» المعروفة اختصاراً بالـ«إس إس». الحزب اليوم معادٍ للاتحاد الأوروبي ومقرّب من روسيا، ومع أنه شارك في حكومات ائتلافية نمساوية في السابق، إلا أنه لم يقُد أياً منها بعد. وراهناً، رغم تكليف كيكل - بعدما تصدّر حزبه انتخابات سبتمبر (أيلول) الماضي بحصده نسبة 29 في المائة من الأصوات، ما زال من غير الواضح ما إذا كان سينجح فعلاً بالمهمة الموكلة إليه «اضطراراً». فالرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن فضّل بدايةً تكليف زعيم حزب الشعب (محافظ)، الذي حل ثانياً بنسبة 26 في المائة من الأصوات، تشكيل الحكومة، مع أن في هذا مخالفة للأعراف. وبرّر الرئيس قراره يومذاك بأن كل الأحزاب الأخرى ترفض التحالف مع حزب الحرية من دون تحييد كيكل. وبالفعل، اشترط حزب الشعب تنازل كيكل عن قيادة الحكومة شرطاً للتفاوض معه، وهو ما رفضه الأخير. بيد أن زعيم حزب الشعب كارل نيهامر أخفق بتشكيل حكومة ثلاثية الأطراف مع حزبين آخرين، فاستقال من زعامة حزبه، وبالتالي، عادت الكرة إلى ملعب كيكل.

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شتراخه (رويترز)

حزب الحرية النمساوي المتطرف... لمحة تاريخية وسياسية

أُسس حزب الحرية النمساوي عام 1956، وكان زعيمه الأول، أنتون راينتالرو، ضابطاً سابقاً في قوات الأمن الخاصة النازية. لكن، رغم ذلك، تجنّب الحزب في بداياته الترويج.

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع قناة بنما (آ ب)

ترمب يسجّل «انتصارات» سريعة في القارة الأميركية... ويستغلها ضد خصومه في الداخل

منذ وصول دونالد ترمب للمرة الأولى إلى البيت الأبيض، تبيّن أن استحالة التنبؤ بقراراته وخطواته هي من أمضى الأسلحة في ترسانته الدبلوماسية، وأن فاعلية التهديدات التي يطلقها في كل الجهات وعلى جميع الجبهات تكمن في كونها قابلة للتنفيذ فوراً. لكن، بينما بقيت تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية على الصين وأوروبا إبان ولايته الأولى مجرّد تصريحات لم تبلغ أبداً مرحلة التنفيذ، اختلف الأمر هذه المرة. فمنذ بداية هذه الولاية الثانية وصلت دبلوماسية الابتزاز التي انتهجها الرئيس الأميركي العائد إلى أبعد الحدود الممكنة، واستطاع خلال أقل من أسبوعين أن يحصل على تنازلات من المكسيك وكندا وكولومبيا وبنما وفنزويلا، غير آبه بالاضطرابات والخضّات التي أحدثتها في الأسواق المالية والاقتصادية هذه الحرب التجارية التي أطلقها، والتي وصفتها صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنها الأكثر حُمقاً في التاريخ.

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جبل راشمور (آ ف ب)

كولومبيا وفنزويلا والإكوادور نماذج لتعامل واشنطن الجديد مع أنظمة أميركا الجنوبية

>على صعيد دول النصف الجنوبي من القارة الأميركية، يرى مراقبون أن الجولة الأولى من «حرب» دونالد ترمب المفتوحة على كل الجبهات، التي يرى كثيرون أن ترمب كسبها بالضرب


خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»