دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

الوريث الثري الذي حقّق سياسياً ما عجز عنه أبوه 5 مرات

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
TT
20

دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة

في عام 1998 قرّر ألفارو نوبوا صاحب أكبر ثروة في الإكوادور الترشح لرئاسة الجمهورية جرياً على عادة كبار الأغنياء الذين يشكلون الغالبية الساحقة من رؤساء تلك البلاد إلا أن الثروة الضخمة التي جمعها من تجارة الموز وعشرات الشركات التي أسسها في القارتين الأميركية والأوروبية بجانب المشروعات الخيرية الكثيرة التي يموّلها لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لم تكن كافية لفوزه في تلك الانتخابات. بعد تلك المحاولة الأولى الفاشلة عاد ألفارو ليجرب الترشح مرة أخرى عام 2002 ومن ثم كرّر التجربة 3 مرات متتالية حتى أصبح صاحب الرقم القياسي في الترشح للانتخابات الرئاسية من غير أن يحالفه الحظ في الوصول إلى سدة الحكم الأولى. ولكن في ربيع العام الماضي شغر منصب رئاسة الجمهورية في الإكوادور إثر استقالة الرئيس اليميني غيّيرمو لاسّو تحت وطأة فضائح فساد مالي، فقرّر رجل الأعمال الشاب دانيال نوبوا (35 سنة) نجل ألفارو خوض غمار المعركة الانتخابية التي انهزم فيها والده 5 مرات متتالية. وحقاً تمكّن في الجولة الثانية من الفوز على منافسته اليسارية ليصبح أصغر رئيس في تاريخ جمهورية الإكوادور ويتولى أقصر فترة رئاسية تنتهي في ربيع العام المقبل مع نهاية ولاية الرئيس المستقيل.

بدأ دانيال نوبوا ولايته الرئاسية أواخر العام الماضي بعدما هزم لويزا غونزاليس، مرشحة الحزب والتيار السياسي اليساري الذي أسسه الرئيس الأسبق رافايل كورّيا، الخصم الذي كان هزم والده 3 مرات ويعيش حالياً في المنفى فاراً من وجه العدالة التي تلاحقه بتهم الفساد واختلاس المال العام.

عندما قرّر ألفارو نوبوا التخلّي عن حلمه الرئاسي في عام 2013 بعد هزيمته الانتخابية الخامسة، كان نجله دانيال يتابع تحصيله العلمي في أبرز الجامعات الأميركية من نيويورك إلى جورج واشنطن مروراً بنورثويسترن وهارفارد، ويعدّ العدة لاقتحام المعترك السياسي الذي امتنع على والده، حريصاً باستمرار على إظهار صورة أكثر اعتدالاً وعصرية، تمشياً مع المتطلبات الاجتماعية الحديثة.

ذلك أن نوبوا (الأب) كان يجسّد حقاً صورة المرشح اليميني المحافظ المتجذّر في المعتقدات والقيم القديمة والخطاب الصدامي في وجه اليسار. أما نجله دانييل فقد حرص منذ اليوم الأول على وصف نفسه بأنه يمثل «وسط اليسار»، وأعلن دعمه للمجموعات الجنسية المختلفة والسكان الأصليين، كما أبدى اهتماماً خاصاً بالتعليم والشباب والعاطلين عن العمل. مع أن هذه الصورة التي جهد لإظهارها وساعدته على استقطاب التأييد في الأوساط الشعبية المعتدلة، لم تحجب يوماً عند المراقبين حقيقة هويته وانتماءاته السياسية اليمينية.

ثقافة وخبرة اقتصادية وتكنولوجية

يتميّز دانيال نوبوا عن والده بإلمامه الواسع بشؤون الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، وخطابه البليغ المباشر الذي كان منصّة القفزة الكبرى التي حققها في مسيرته القصيرة نحو الرئاسة، ولا سيما المناظرة التلفزيونية عشية الجولة الأولى من الانتخابات مع بقية المرشحين. والواقع أنه قبل أيام قليلة من تلك الجولة في 20 أغسطس (آب) من العام الماضي كان دانيال نوبوا خارج كل الرهانات للوصول إلى الجولة الثانية. لكن عندما أتيحت له فرصة المواجهة المباشرة مع منافسيه، وخاصة المرشحة اليسارية لويزا غونزاليس، التي كانت كل الاستطلاعات ترجح فوزها، أظهر معرفته الواسعة والعميقة بأوضاع البلاد ومشكلاتها والحلول المناسبة لها، راسماً بذلك ملامح المرشح الشاب العصري المؤهل للوصول إلى الرئاسة.

ويجمع المحللون على أن تلك المناظرة التلفزيونية، بالذات، هي التي كانت بابه إلى الفوز خارج المواجهة الغارقة فيها البلاد منذ عقود بين اليمين التقليدي المحافظ والتيارات اليسارية الكلاسيكية المتشددة. ولقد أظهرت نتائج الانتخابات لاحقاً أن غالبية الناخبين توّاقة إلى الخروج من دوامة تلك المواجهة التي شلّت العمل السياسي، وعطّلت حركة النمو الاقتصادي، وأرخت سدل العنف والفلتان الأمني، الذي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة.

بعدها، قبيل الجولة الثانية كان دانيال نوبوا يتصدّر جميع الاستطلاعات، وليس مدفوعاً فقط بالتجاوب الشعبي الواسع مع الطروحات التي قدمها لمعالجة المشكلات الاقتصادية والأمنية، بل أيضاً بسبب انحسار التأييد للتيار الثوري اليساري الذي فشلت قياداته في استعادة الشعبية التي كان يتمتع بها إبان فترة رئاسة مؤسسه رافايل كورّيا. وحقاً، تبيّن تحليلات النتائج الانتخابية أن نوبوا نجح في استمالة الشباب الذين جذبهم هذا الخيار السياسي الجديد ومقترحاته لمعالجة المشكلات الكثيرة التي تعاني منها الإكوادور... من البطالة... إلى تراجع الخدمات الاجتماعية الأساسية والهواجس الأمنية التي رفعت معدلات الإجرام إلى مستويات قياسية.

طروحات وحلول للمشكلات

معظم الطروحات التي تضمنها برنامج نوبوا الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة. فالبطالة غدت المصدر الأساسي للقلق الاجتماعي الذي يسود الإكوادور بسبب تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة أعمال العنف والسطو التي تمارسها المنظمات الإجرامية وعصابات تجارة المخدرات، حتى أصبحت البلاد من أخطر البلدان في أميركا اللاتينية.

وكمثال، دعا نوبوا إلى إصلاح نظام السجون وتشديد العقوبات على جرائم الاتجار بالمخدرات. واقترح نقل أخطر المجرمين، الذين يشكلون 17 في المائة من إجمالي المعتقلين، إلى سفن عائمة في البحر لمنعهم من مواصلة أنشطتهم داخل السجون، علماً بأن هذه السجون صارت بفعل الفساد والرشوة تمنح المجرمين المعتقلين فيها معاملة تضاهي معاملة الفنادق الضخمة وتتيح لهم إدارة عملياتهم الإجرامية. وهنا يشار إلى أن المرشح الشاب جاب البلاد إبان حملته الانتخابية مرتدياً سترة واقية من الرصاص بعد اغتيال أحد المرشحين في مستهل الحملة.

من جهة ثانية، تضمن برنامج نوبوا الاقتصادي المحافظة على التعامل بالدولار الأميركي في العقود والصفقات التجارية الرسمية، وتعهداً بجذب شركات أميركية لتصنيع منتوجاتها في الإكوادور من أجل المساهمة في إيجاد فرص العمل للعموم. وكذلك اقترح إلغاء الضرائب المفروضة على خروج رؤوس الأموال من البلاد، الأمر الذي استجلب انتقادات واسعة من خصومه الذين عدّوا هذا الاقتراح لا يعود بالمنفعة سوى على الشركات الكبرى، وتحديداً تلك التي تملكها أسرته.

معالجة الأمن أولاً

نوبوا، منذ اليوم الأول لتسلمه مهام الرئاسة أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وجد نفسه مضطراً لتنحية البنود الاقتصادية والاجتماعية في برنامجه الانتخابي - التي فعلياً كانت رافعته إلى الفوز - كي يتفرّغ للأزمة الأمنية التي أصبحت هاجس المواطنين الأساسي بعدما وقعت البلاد تحت رحمة التنظيمات الإجرامية التي تسيطر على مناطق كثيرة، بما فيها بعض أحياء العاصمة والمدن الكبرى، زارعةً الرعب بين المواطنين.

وفي مطلع عام الحالي، أي بعد شهر تقريباً من جلوس الرئيس الجديد، تابع المواطنون مباشرة على شاشات التلفزيون كيف اقتحم 10 مسلحين ملثمين استوديو إحدى القنوات، وهددوا المشاركين في البرنامج طيلة نصف ساعة قبل أن تتدخل الشرطة لاعتقالهم.

ثم بعد أيام من تلك الحادثة، نشرت وزارة الداخلية تقريراً يفيد أن عدد ضحايا العنف والاغتيالات على يد المنظمات الإجرامية خلال عام الماضي ناهز 8 آلاف، أي بزيادة 65 في المائة عن العام السابق.

في غضون ذلك، كانت 6 سجون في قبضة معتقلين مسلحين يحتجزون عشرات الرهائن داخلها، وكان أحد أخطر مجرمي الإكوادور قد فرّ من السجن برفقة 4 من حراسه بعد اعتقاله بـ3 أيام. ومن ثم، بلغت الأزمة الأمنية مستوى من الخطورة وعجز الأجهزة عن ضبطها، ما دفع البلدان المجاورة التي كانت تتابع تطورات الوضع بقلق متزايد إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المناطق المتاخمة للإكوادور، وعرض بعضها على حكومة نوبوا المساعدة في ضبط الحدود.

أمام هذا المشهد، أعلن الرئيس نوبوا حالة الطوارئ العامة في البلاد لفترة 3 أشهر. وأوكل مهام حفظ الأمن في المدن والأرياف إلى القوات المسلحة. وقرّر أن يدعو في نهايتها إلى إجراء استفتاء شعبي حول حزمة من التعديلات الدستورية، لها صلة بالأمن، أملاً في تمكين الدولة من أدوات تسمح لها بمواجهة العنف المتزايد في البلاد. وضمن هذه التعديلات تكليف الجيش صلاحيات دائمة لمؤازرة الشرطة في الحفاظ على الأمن، وتوسيعها لتمكينه من البقاء في المدن، وتعجيل طلبات استرداد المجرمين، وتسهيل إجراءات تسليمهم، وإجراء تعديلات واسعة على قانون العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعديلات أخرى لتشجيع الاستثمار الخارجي وإضفاء مزيد من المرونة على قانون العمل.

وكان قد سبق للرئيس المستقيل أن دعا إلى إجراء استفتاء مماثل مطلع العام الماضي، لكنه قوبل بالرفض بنسبة عالية. ورغم أن قانون الطوارئ الساري منذ بداية العام الحالي يعدّ البلاد في حالة نزاع داخلي مسلح، وينصّ على تكليف الجيش مهام الحفاظ على الأمن في المدن والأرياف، فإن الاستفتاء الذي طرحه نوبوا مؤخراً يهدف إلى إعطاء القوات المسلحة، وليس الشرطة، صلاحيات دستورية لوضع السياسة الأمنية والإشراف على تنفيذها، ويمهد لاستعادة الدولة هيبتها وإشاعة بعض الاطمئنان في مجتمع فقد ثقته بالمؤسسات العامة وقدرات الأجهزة على حمايته من عنف المنظمات الإجرامية .

مجازفة ناجحة... ولكن

هنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد كان يدرك أن الاستفتاء يحمل مجازفة كبيرة، من شأنها أن تقضي على حظوظه في تجديد ولايته في انتخابات العام المقبل، بيد أنه كان يعرف أيضاً أن ترك الأمور على حالها سيؤدي إلى خروج الوضع الأمني عن السيطرة، ويفقده الشعبية التي رافقته خلال الأشهر الأولى من ولايته عندما أعلن الحرب على العصابات الإجرامية. غير أن مجازفة نوبوا نجحت، فجاءت نتائج الاستفتاء لتعزز موقعه، وتطلق يده لعسكرة السياسة الأمنية من دون اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ... كما كان يحصل غالباً عند التفاقم المتكرر للأزمات.

في المقابل، نجاح الاستفتاء وموافقة المواطنين على 9 من أصل 11 اقتراحاً لتعديل الدستور وتشديد الاستراتيجية الأمنية، لا يعالج بلا شك الجذور الهيكلية للأزمة، أي التفاوت الاجتماعي العميق، وانسداد الأفق أمام المجموعات الفقيرة والمهمشة وغياب الدولة عن المناطق الأكثر تأثراً بتداعياتها.

وبناءً عليه، لا يستبعد المراقبون، في حال استمرار تدهور الأوضاع الأمنية ولجوء الحكومة إلى مزيد من الإجراءات المتشددة، بل انتهاك حقوق الإنسان، على غرار ما يحصل في السلفادور مع رئيسها نجيب أبو كيلة، أن ينقلب السحر على الساحر... ويجد نوبوا نفسه في مأزق منحى تصعيدي يصعب جداً أن يخرج منه ظافراً.يضاف إلى ما سبق أن الأزمة المفتوحة التي نشأت عن عملية اقتحام السفارة المكسيكية مطلع الشهر الماضي لاعتقال نائب الرئيس الأسبق المطلوب من العدالة، والتي تمّت بأمر مباشر من نوبوا، استقطبت إدانة واسعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتترك حكومته بلا غطاء، في حال إقدامها على مزيد من التجاوزات.


مقالات ذات صلة

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

حصاد الأسبوع من القمة (رويترز)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

«محطة أولى في مسار طويل»، هكذا وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط «قمة فلسطين» غير العادية التي استضافتها القاهرة، الثلاثاء الماضي، التي عكست توافقاً عربياً واضحاً على رفض «التهجير» أياً كان شكله أو اسمه، مع التأكيد على أن السلام خيار استراتيجي للمنطقة. جاءت قرارات القمة لتلبي الكثير من التوقعات والآمال، لا سيما مع تبينها «خطة عربية جامعة» لـ«إعمار دون تهجير». إلا أنها في الوقت نفسه قرارات تحتاج إلى «خطوات إجرائية» لتنفيذها على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الزخم الحالية بشأن القضية الفلسطينية، وإلا انتهت ككثير من القرارات والمبادرات السابقة في الصدد نفسه «حبراً على ورق».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جامعة للقادة العرب المشاركين قي القمة (إكس)

قمم عربية تاريخية دعمت فلسطين

تعدُّ القضية الفلسطينية «قضية العرب المركزية»، ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 كانت القضية الفلسطينية بنداً رئيساً على جدول أعمال القمم العربية.

حصاد الأسبوع ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس…

نذير رضا (بيروت)
حصاد الأسبوع د غازي وزني (أ ف ب/غيتي)

وزير المال... «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية اللبنانية

استحوذت عقدة وزارة المال، على ثلاثة أسابيع من النقاشات والاتصالات خلال فترة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، ويعود ذلك إلى إصرار «الثنائي الشيعي» (حزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع الاجتماع التاريخي العاصف بين زيلينسكي وترمب وأركان إدارته (رويترز)

رهان الكرملين على سياسة ترمب في أوكرانيا يصطدم بالتحدي الأوروبي

فتحت خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضغط على سلطات كييف، بهدف حملها على الانخراط في تسوية سياسية للصراع في أوكرانيا، «شهية» موسكو لتسريع تطبيع العلاقات مع واشنطن، واستغلال الوضع الذي نشأ بعد الاستقبال المُهين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لحصد أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل انطلاق العملية التفاوضية المحتملة. ومع تصعيد اللهجة الروسية، بالتوازي مع خطوات ترمب السريعة والحادة تجاه كييف، بما في ذلك على صعيد توسيع الحديث عن ضرورة إطاحة زيلينسكي كشرط ضروري لإطلاق حوار فعّال يفضي إلى تسوية سياسية نهائية، بدا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ينطلق من القارة الأوروبية. وفي مقابل مشهد تراجع الحماسة الأوروبية لدعم كييف قبل أسابيع قليلة، يخشى الكرملين من أن تسفر سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترمب عن تحوّلات تعزّز تماسك الموقف الأوروبي. الأمر الذي يضع عراقيل إضافية أمام مسار الحل النهائي الذي يتطلع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

رائد جبر (موسكو)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

من القمة (رويترز)
من القمة (رويترز)
TT
20

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

من القمة (رويترز)
من القمة (رويترز)

الدورة غير العادية من اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى القمة، عقدت في القاهرة، بناء على طلب دولة فلسطين، لمواجهة تحدي «التهجير» الذي زادت خطورته مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن مقترح لتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي. ولقد أعقبه كلام عن عزمه على السيطرة على القطاع وتحويله إلى ما وصفه بـ«ريفييرا الشرق الأوسط»، وهو المقترح الذي قوبل بانتقادات عربية ودولية واسعة.

تنسيق عربي واسع

ورغم الرفض العربي الواضح منذ اليوم الأول لمقترح ترمب، فإن انعقاد القمة استدعى كثيراً من التحضيرات والاتصالات بدأت باجتماع «خماسي عربي» في القاهرة مطلع فبراير (شباط) الماضي، شارك فيه وزراء خارجية المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والأمين العام لجامعة الدول العربية، وخلصت الجهود العربية إلى توجيه رسائل عدة إلى ترمب على رأسها «رفض التهجير».

لم تتوقف الأمور هنا، بل استمرّت البيانات والمباحثات بشأن مستجدات القضية الفلسطينية مع تفاقم «تحدي التهجير»، حتى أعلنت وزارة الخارجية المصرية عن «اتصالات مكثفة مع دول عربية عدة لبحث مستجدات القضية الفلسطينية».

وتلا ذلك الإعلان عن استضافة القاهرة قمة عربية «طارئة» هدفها بحث التطورات «المستجدة والخطيرة» للقضية الفلسطينية. وكان مقرراً عقدها في 27 فبراير الماضي، لكنها أرجئت إلى 4 مارس (آذار) الحالي لـ«استكمال التحضير الموضوعي واللوجيستي»، بحسب إفادة رسمية للخارجيّة المصرية.

التحضير لـ«القمة الطارئة»

تطلّب التحضير تنسيقاً للمواقف العربية - العربية واتصالات واجتماعات على مدار الساعة، كان أبرزها لقاء أخوي تشاوري جمع قادة دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر، الشهر الماضي في الرياض، رحّب بعقد «القمة العربية الطارئة». وجرى خلاله تبادل وجهات النظر حيال مختلف القضايا الإقليمية والدولية، خصوصاً الجهود المشتركة الداعمة للقضية الفلسطينية، وتطورات الأوضاع في قطاع غزة.

التزام بدعم القضية

وتأكيداً على قضية العرب المركزية حملت هذه الدورة غير العادية اسم «قمة فلسطين»، وعكست كلمات القادة والزعماء المشاركين فيها موقفاً موحداً رافضاً للتهجير داعماً لإعادة إعمار قطاع غزة، والأهم كونه مؤيداً لخيار السلام، مع توجيه دعوات للرئيس الأميركي لدعم مسار السلام، استناداً إلى مبدأ «حل الدولتين».

وجاء «بيان القاهرة» في ختام فعاليات القمة الطارئة متضمناً 23 بنداً، من بينها «اعتماد الخطة المقدّمة من مصر، بالتنسيق الكامل مع دولة فلسطين والدول العربية واستناداً إلى الدراسات التي أُجريت من قبل البنك الدولي والصندوق الإنمائي للأمم المتحدة، بشأن التعافي المبكّر وإعادة إعمار غزة باعتبارها خطة عربية جامعة». وأيضاً، حمل البيان تحذيراً واضحاً من «أي محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني»، وعدّها «تهديداً لأسس السلام في الشرق الأوسط، وينسف آفاقه المستقبلية ويقضي على طموح التعايش المشترك بين شعوب المنطقة».

لبّت مخرجات «قمة فلسطين» العربية الطارئة، الكثير من «التطلعات والآمال التي كانت معقودة عليها»، بحسب خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط».

إذ قال السياسي والحقوقي الجزائري، محمد آدم المقراني، إنها «عكست التزاماً عربياً جماعياً بدعم القضية الفلسطينية». ورأى الدكتور عبد الحكيم القرالة أستاذ العلوم السياسية بالأردن أنها كانت «متوائمة مع حجم الظرف الطارئ الذي تمر به القضية الفلسطينية من أطروحات للتهجير وتصفية القضية». وبينما ذكر السياسي الفلسطيني الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أنها تضمنت «حلولاً سياسية وأمنية عملية تلبي كثيراً من التطلعات»، لفت أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور، أحمد يوسف أحمد، إلى أن قرارات القمة جاءت «متناسبة مع التحديات، لا سيما تبنيها الخطة المصرية لإعادة الإعمار وتصورها لإدارة وحكم قطاع غزة وطرحها لقضية الإصلاح الداخلي الفلسطيني».

معضلة «حماس»

في بيانها الختامي، أكدت القمة أن خيار العرب الاستراتيجي هو «تحقيق السلام العادل والشامل». ودعت إلى «تكثيف التعاون مع القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك مع الولايات المتحدة، من أجل تحقيق السلام». ولكن بعد ساعات من اعتماد جامعة الدول العربية خطة مصر لإعادة إعمار قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، رفضت كل من أميركا وإسرائيل المقترح. وفي حين ادعى البيت الأبيض أن الخطة «لا تعالج الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع»، عدّت إسرائيل عبر وزارة خارجيتها أن القمة «لم تعالج واقع ما بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023».

في المقابل، بينما حثّت القمة على توحيد الصف الفلسطيني، ورحبت بـ«تشكيل لجنة إدارة غزة تحت مظلة الحكومة الفلسطينية» و«بجهود دولة فلسطين المستمرة في إطار الإصلاح الشامل»، لم يشر البيان الختامي إلى مصير حركة «حماس» في قطاع غزة، وهذه «معضلة» وضعتها إسرائيل والولايات المتحدة شرطاً لأي اتفاق مستقبلي، كما شددت دول أوروبية عدة في أعقاب اجتماع لمجلس الأمن الدولي، الأربعاء الماضي، على رفض أن يكون لـ«حماس» أي دور في قطاع غزة مستقبلاً.

غير أن رئيس الوزراء وزير الخارجية الفلسطيني، محمد مصطفى، أبدى تفاؤلاً إزاء هذه النقطة، وقال في مؤتمر صحافي ختامي للقمة: «لا نريد أن نعطي لأحد الذرائع... مطلوب من الجميع تقديم أفضل ما عنده لتجاوز العقبات... والمسؤول الأول عن الوضع الحالي هو إسرائيل». وأضاف مصطفى: «ضمن التوافقات الفلسطينية نحن كفيلون بتجاوز هذه القضايا ونعتمد على وطنية الجميع لحل أي خلاف».

من جهة ثانية، مع تأكيد الدكتور أحمد أن تحقيق وحدة الصف الفلسطينية «أمر ليس بالسهل»، لفت إلى «مؤشرات إيجابية» من بينها ترحيب «حماس» بقرارات القمة، وتحميل إسرائيل المسؤولية. واتفق معه الدكتور الرقب بقوله إن «المؤشرات الحالية توحي بقدر من البراغماتية الفلسطينية في التعامل مع الموضوع ورغبة في حل القضايا الداخلية العالقة».

بالتوازي، وفق أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، قدمت القمة «بديلاً واضحاً وعملياً وواقعياً لمقترح إخراج الفلسطينيين من أراضيهم». وأشار في مؤتمر صحافي في ختام أعمال القمة، إلى أن الخطة «ليست فنية فقط، بل ترسم مساراً لسياق أمني وسياسي جديد في غزة، يتضمن تشكيل لجنة تكنوقراط غير فصائلية، تتولى إدارة القطاع لمدة 6 أشهر تحت إشراف السلطة الفلسطينية... وهذه خطة مرنة وقابلة للتطوير حسب مقتضيات الواقع».

التحدي الصعب

في المقابل، عدّ الرقب أنه بقدر قوة قرارات القمة فإنها «تحتاج إلى خطوات إجرائية لتنفيذها على أرض الواقع... ومعظم القرارات بما في ذلك إعادة الإعمار تتطلب التزاماً إسرائيلياً بمراحل اتفاق وقف إطلاق النار وانسحاباً كاملاً من قطاع غزة». وأكد السياسي الفلسطيني «ضرورة تحرك الدبلوماسية العربية للتأثير على الإدارة الأميركية وإقناعها بالخطة المصرية لإعادة الإعمار... كيلا تكون قرارات القمة ككثير من القرارات السابقة حبراً على ورق». وأردف: «نحتاج لخطوات إجرائية فعلية وعمل دؤوب كيلا نكون أمام خيارات صفرية». وفي هذا السياق، دعا الدكتور القرالة لحشد الدعم الدولي من أجل أفق سياسي واضح للقضية الفلسطينية... «لأن مخرجات القمة تحتاج إلى دعم وإسناد خلال الأيام المقبلة، بهدف البناء على الرؤية العربية والموقف الجامع لحل القضية الفلسطينية وانتشال المنطقة من براثن العنف».

من زاوية أخرى يبدو أن وضع مقررات القمة موضع التنفيذ «هو التحدي الأساسي الأصعب أمام القمة»، بحسب الدكتور أحمد، لا سيما مع رفض إسرائيل والولايات المتحدة لها، إذ قال: «القمة خطوة أولى تستتبعها خطوات أكثر صعوبة». وهذا تحد أشار إليه أيضاً أبو الغيط بقوله إن «القمة محطة أولى في مسار طويل أتمنى ألا يكون شاقاً». أما المقراني فرهن فعالية مخرجات القمة بـ«مدى التنسيق المستقبلي بين الدول العربية، وقدرتها على تجاوز الخلافات وتوحيد الصفوف في مواجهة التحديات المشتركة».

الواقع أن البيان الختامي يشير إلى «التنسيق في إطار اللجنة الوزارية العربية - الإسلامية المشتركة لإجراء الاتصالات والقيام بالزيارات اللازمة للعواصم الدولية من أجل شرح الخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، والتعبير عن الموقف المتمسك بحق الشعب الفلسطيني بالبقاء على أرضه وحقه في تقرير مصيره». لكن الدكتور يوسف يلفت إلى «سير الإدارة الأميركية الحالية في اتجاهات متضاربة»، ويقول: «هذا لا يعني أنه لا مجال للتحرك، ولكن تبقى مواقف الإدارة الأميركية الحالية صعبة وتحتاج إلى مجهود لتغييرها ودفعها لدعم الخطة العربية».

وهكذا، انتهت القمة لكن العمل العربي لمواجهة تحدي «التهجير» وتصفية القضية لم ينته بعد، وهو ما يستدعي البدء في «مرحلة كسب المزيد من الدعم للخطة العربية».