في مشهد سياسي أوروبي متحول، تقف السويد اليوم شاهدة على أحد أكثر التحولات الجذرية في سياسات الهجرة واللجوء. فالبلد الذي فتح أبواب الهجرة لأكثر من 160 ألف طالب لجوء عام 2015، أصبح يستقبل اليوم أقل من عُشر هذا العدد، في تحول دراماتيكي يعكس تغيرات عميقة في النسيج السياسي والاجتماعي الأوروبي. هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج سلسلة من القرارات السياسية المتلاحقة التي بدأت بحذر عام 2016 وتسارعت بشكل حاد بعد وصول التحالف المحافظ للسلطة عام 2022، بإيعاز كبير من حزب «ديمقراطيو السويد» اليميني المتطرف الذي أصبح «صانع السياسات» الفعلي في قضايا الهجرة.
إشكالية الهجرة في السويد تتمثل بعقد من التحولات بدأت في خريف 2015، بوصول البلاد إلى ذروة استقبال اللاجئين بنحو 10.000 طالب لجوء أسبوعياً وفق الإحصائيات التي نشرتها الوكالة السويدية للهجرة على موقعها (ميغريشن فيرغيت). وفي حينه، أعلن رسمياً أن السويد قد استقبلت، آنذاك، أكثر من 20 في المائة من جميع طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي، وثلاثة أضعاف ما كانت تستقبله في الأشهر الستة الأولى من العام نفسه.
تحوّل أوّلي... صار تغييراً كاسحاً
بيد أن نقطة التحوّل الأولى جاءت بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء الديمقراطي الاشتراكي ستيفان لوفين ونائبته من حزب «الخضر» آسا رومسون يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، للإعلان عن «تغيير جذري» في سياسة اللجوء بسبب الضغط الهائل على نظام الاستقبال السويدي. وهذا المؤتمر الصحافي بقي في ذاكرة السويديين بسبب انهيار رومسون باكية في أثناء الإعلان عن الإجراءات الجديدة في مشهد جسّد نهاية حقبة من «المثالية» السويدية.
بعدها أبدل الاشتراكيون بتصاريح الإقامة الدائمة أخرى مؤقتة، وقيّدوا شروط «لمّ الشمل العائلي»، وعزّزوا مراقبة الحدود، وكانت النتيجة انخفاضاً بنسبة 82 في المائة في عدد الوافدين بين 2015 و2016.
إلا أن التحوّل الذي بدأه الديمقراطيون الاشتراكيون عام 2016 كان محدوداً مقارنة بما سيأتي. إذ جاء «التغيير» الحقيقي جاء مع وصول التحالف اليميني المحافظ للسلطة عام 2022. وإذ ذاك ألغت الحكومة اليمينية الجديدة حق الإقامة الدائمة للاجئين نهائياً عام 2023، مطالبة إياهم بتجديد تصاريحهم دوريّاً وفق شروط الاندماج. ومن شأن هذا الإجراء التأثير سنوياً على ما بين 98.000 و180.000 شخص، حسب التقديرات الحكومية.
رقم قياسي للمغادرين
على أن التشديد تسارع عام 2024 مع خفض حصّة اللاجئين السنوية من 6.400 إلى 900 فقط، وتسجيل رقم قياسي في المغادرين بأكثر من 12.000 شخص. وأيضاً، رفعت الحكومة المنح المالية لمن يريدون من المهاجرين العودة الطوعية لأوطانهم الأصلية من 10.000 كرونه إلى 350.000 كرونه، بحلول 2026 في أكبر برنامج تحفيز للمغادرة في أوروبا، بحسب الخبر الذي نشره موقع «ديسباتش يوروب» في موضوع بعنوان «كيف تغيرت قوانين الهجرة في السويد في 2025».
ومن ثم، سّجلت ذروة التشّدد في يناير (كانون الثاني) 2025 مع إعلان وزير الهجرة يوهان فورسيل زيادة مدة الإقامة المطلوبة للحصول على الجنسية من خمس سنوات إلى ثماني سنوات، مع شرط ألا يكون الطالب قد تلقّى مساعدات اجتماعية لأكثر من ستة أشهر خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وللعلم، فإن لجان تحقيق جديدة تدرس حالياً أيضاً إمكانية سحب الجنسية من مزدوجي الجنسية المُدانين بجرائم تهدد النظام.

مهندسو التغيير!
في قلب هذا التغيير، وفي ظّل تصاعد نجمي اليمين واليمين المتطرف، برزت شخصيات سياسية حوّلت السويد حقاً من نموذج للانفتاح إلى مختبر للسياسات التقييدية. ولقد بدأت ملامح هذا التغيير بالظهور مع رئيسة الوزراء السابقة ماجدالينا أندرسون (2020 - 2022)، زعيمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي، التي أقرّت علناً بـ«فشل الاندماج»، وتبنّت بذلك خطاباً داعماً لسياسات أكثر تقييداً للوافدين، وسط تزايُد الاستقطاب السياسي وتصاعُد شعبية اليمين المتطرف الذي وعد بالحّد من الهجرة بشكل كبير.
هذا التوجُّه بلغ ذروته مع تولي أولف كريسترسون، زعيم حزب المعتدلين، رئاسة الوزراء خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2022، في أعقاب تشكيله ائتلافاً يضم الأحزاب اليمينية والوسطية، معتمداً على دعم غير مسبوق من تيار اليمين المتطرف الذي يمثله حزب «ديمقراطيو السويد» المناهض للهجرة.
والواقع أن حكومة كريسترسون كانت قد أعلنت فور تسلّمها مهامها عن «تغيير في النموذج» لاتباع سياسة أكثر صرامة وتقييداً. وفي هذا الإطار، قادت ماريا مالمير ستينرغارد، وزيرة الهجرة، حزمة واسعة من التغييرات التشريعية التي ركّزت على تشديد معايير منح الإقامة، والتركيز على عمليات الترحيل، وتخصيص تعويضات مالية للمغادرة الطوعية، وهي إجراءات تتجه نحو مراجعة شاملة للحق في الإقامة الدائمة.
وبالفعل، يُعد ملف إلغاء هذا الحق للاجئين من أهم الملفات الشائكة في السويد، حيث يُنتظر أن يقدِّم وزير الهجرة يوهان فورسيل، الذي أصبح الوجه التنفيذي للسياسات الجديدة، مدافعاً عنها بحماسة تفوق أحياناً حماس اليمين المتطرف نفسه، تقريره النهائي حول هذا المقترح تمهيداً لمشروع قانون يُتوقع طرحه في عام 2027.
ولكن الشخصية الأكثر تأثيراً تبقى جيمي أوكيسون، زعيم «ديمقراطيو السويد» اليميني المتطرف، الذي نجح في تحويل حزب هامشي ذي جذور نازية جديدة إلى صانع سياسات أساسي، ولقد كان شعار حملته الانتخابية «أوروبتي تبني الجدران: ضد الهجرة، ضد العصابات الإجرامية، ضد الإسلاميين».
جيمي أوكيسون زعيم «ديمقراطيو السويد» اليميني المتطرف نجح في تحويل حزب هامشي ذي جذور نازية جديدة إلى صانع سياسات أساسي
«ذئب بثياب حمل»
أوكيسون، الذي طالما وصفه خصومه بأنه «ذئب بثياب حمل»، استطاع إقناع الأحزاب التقليدية بأنه «شريك موثوق»، على الرغم من احتفاظه بعلاقات مثيرة للجدل مع حركات يمينية متطرفة أوروبية. ونجاحه في جعل خطابه المتشدد «طبيعياً» في النقاش العام السويدي يُعدّ درساً في التلاعب السياسي، حيث حوّل السويد من «القوة الإنسانية العظمى» إلى دولة تتبنى سياساته التي كانت تُعدّ متطرفة قبل عقد واحد فقط.
في المقابل، أثارت هذه الإجراءات ردات فعل قوية في المجتمع المدني. حيث قدمت ڤيكتوريا نيستروم، المحامية وخبيرة الهجرة المعروفة، تحليلاً ناقداً لمشروع قانون تحديد الهجرة الذي يهدف إلى تقييد المساعدة القانونية لطالبي اللجوء. وشدّدت نيستروم على أن هذا التقييد يقوّض الحق الأساسي في محاكمة عادلة، عادّةً هذه التعديلات التشريعية «أسوأ هجوم على حقوق اللاجئين في تاريخ السويد الحديث»، بل وفي أوروبا، وفقاً لتقييمات العديد من الخبراء.

أبرز دوافع التحوّل
لم يكن التحوّل الدراماتيكي الذي طرأ على سياسة الهجرة السويدية بين عامي 2020 و2022 مجرد تغيّر عابر، بل جاء نتاج تراكم تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية ضخمة، دفعت بحكومات البلاد إلى التخلي عن عقود من الانفتاح والتوجه نحو التشدد غير المسبوق. والحال، أن الأعباء المادية مثّلت أول هذه الدوافع؛ إذ كشفت الأرقام التي نشرها ديوان المحاسبة السويدي عن ضغط هائل على ميزانية الدولة. وكمثال، بين عامي 2004 و2015، تضاعفت ميزانية نفقات الهجرة خمس مرات تقريباً، مرتفعة من 6.997 مليون كرونه سويدية إلى 33.896 مليون كرونه، وهو ما شكّل عبئاً مالياً ضخماً على الدولة السويدية.
أيضاً، تزامنت هذه الضغوط المالية مع مشاكل اندماج عميقة أثّرت سلباً على قطاعات رئيسة؛ كالإسكان والتعليم والأمن، حيث أشارت تقارير رسمية كثيرة إلى أن المولودين خارج أوروبا، على سبيل المثال، يمثلون نسبة عالية من العاطلين عن العمل. والتقارير الرسمية أفادت أيضاً بأن نحو 700 ألف من سكان السويد المولودين في الخارج يعيشون على المساعدات الاجتماعية، وهو ما أثار حنق السويديين الأصليين وقلقهم حول استدامة نظام الرعاية الاجتماعية.
ولكن، لعل العامل الأمني، هو ما شكّل الذريعة الأبرز للتشدد. إذ وصفت الحكومة العنف المرتبط بالعصابات في الأحياء ذات الكثافة المهاجرة العالية بأنه «المشكلة الاجتماعية الرئيسة في السويد»، وعلى الرغم من تعقيد أسباب الظاهرة، أوردت الإحصاءات الرسمية أن جرائم القتل الناتجة عن إطلاق النار تضاعفت مرتين منذ عام 2013.
بل، وسجلت السويد ثاني أعلى معدل وفيات بالأسلحة النارية في أوروبا، وهي جرائم تتركز معظمها في المناطق الحَضَرية الكبرى التي تضم نسباً عالية من المهاجرين، الأمر الذي عزّز من خطاب اليمين المتطرف، الذي سرعان ما تبنّته الأحزاب التقليدية خوفاً من نزف أصواتها، فتحوّل الرأي العام السويدي بمرور الوقت من الترحيب إلى الرفض القاطع لسياسات الهجرة المفتوحة.
وبالمناسبة، كان رئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين قد نفى قبل فترة طويلة أن تكون لعصابات الجريمة أي علاقة بالهجرة. لكنه غيّر موقفه في سبتمبر 2020 عبر مقابلة مع قناة «إس في تي» السويدية، حين ادعى أن «الهجرة الكبيرة أدت إلى صعوبات في الاندماج... ما أدت بدورها إلى ارتفاع خطر الجريمة».


