مشهد البشت العربي والصوت الخليجي واللكنة السعودية للأمير تركي الفيصل على منصة إيرانية، جمهورًا ومتحدثين فاقوا المائة ألف، وهو يختم حديثه بعبارة (خدا حافز) مشهد تاريخي سيظل في الذاكرة الدولية لسنوات، لا الخليجية والإيرانية فحسب. فالسعودية أعلنت أنها ركبت قطار البراغماتية الذي امتنعت عن ركوبه من قبل، بل ركبته علنًا وعلى رؤوس الأشهاد!!
إنما الأمر يحتاج لأكثر من إلقاء كلمة في مؤتمر للمعارضة الإيرانية، إن كنا نسعى لربيع إيراني يسقط هذا النظام كما تمنى المؤتمرون وتمنى معهم الأمير تركي الفيصل «وأنا أريد إسقاط النظام معكم»، لتتحقق رغبة الملايين من الإيرانيين والعرب بإسقاط نظام الملالي المارق، أو على الأقل يتحقق ربيع يحرك مجموعة كبيرة من المعارضين في الداخل الإيراني ليجعل من إمكانية السقوط احتمالية قائمة لدى هذا النظام.
بعد كلمة الفيصل في باريس، تأكدوا أن سوقًا ستفتح الآن أمام المملكة العربية السعودية ودول الخليج لعشرات من الحركات والتنظيمات المتمردة الإيرانية، لتنتقي منها ما تشاء ممن تتأكد من قدرتها على التأثير على الأرض وتعد إضافة إلى مؤتمر باريس، وبإمكان السعودية أن تلعب دورًا منسقًا لهذه التنظيمات المتفرقة، وجمع الفسيفساء الإيرانية المتمردة.
«مجاهدين خلق» عاجزة وحدها عن التأثير في الداخل بالشكل الذي يهدد النظام الإيراني. لنتذكر فقط أن هذه القاعة التي شهدت وقوف الأمير تركي الفيصل الأسبوع الماضي، هي قاعة تعقد فيها منظمة «مجاهدين خلق» إيران، مؤتمرها السنوي منذ سنوات، وتلقي فيها السيدة مريم رجوي كلمتها في كل مرة، بل وتنقل قناة «العربية» هذا الحدث مباشرة عبر شاشتها، ومع ذلك لم تحرك تلك المؤتمرات أيًا من ردات الفعل الإيرانية مثل التي شهدناها هذا العام.
فمنظمة «مجاهدين خلق» انبثقت من حركة أطلقها آية الله محمود طلقاني عام 1965، مناهضة لحكم الشاه الذي نكل بهم وأعدم كثيرا من قياداتهم، وناصرت الخميني على الرغم من اختلاف توجهاتهما الفكرية، وأيدها علي شريعتي ومهدي بازركان رئيس أول حكومة بعد سقوط الشاه، ثم انقلب عليهم الخميني بعد وصوله لسدة الحكم وإقرار الدستور - كعادته - ولم يمهلهم سوى أربعة أشهر فقط من أبريل (نيسان) 1979 إلى أغسطس (آب)، حتى أزاح كل أعضاء الحركة بتهمة الخيانة وأعدم منهم المئات ويقال الآلاف، هرب بعدها مؤسس المنظمة مسعود رجوي من طهران إلى باريس في يوليو (تموز) 1981.
«مجاهدين خلق» واحدة فقط من حركات الاحتجاج والتذمر، ومن عدة أوراق بالإمكان دعمها وتحريكها في الداخل الإيراني، ويمكن أن تزلزل الأرض تحت أقدام هذا النظام، كالأحواز والأذربيجانيين والكردستان، وأوراق أخرى ملتهبة، وهي ثمار ناضجة تنتظر قاطفها.
صحيح أن إلقاء الأمير تركي الفيصل كلمته يعد حدثًا مدويًا أجبر إيران على تقديم احتجاج للسفير الفرنسي في طهران على إقامة المؤتمر، وهي التي تجاهلته لسنوات غير مكترثة به، مما يدل على أن التحرك السعودي أوجعها، إلا أن الأمر - إن وقف عند هذا الحد - فإنه يظل حدثًا محدود الأثر على حكومة الملالي، لن يزيد على موقف استفزازي يرد عليه ببضعة تصريحات احتجاجية، واستدعاء للسفير الفرنسي وتناول القهوة معه، والسلام ختام، ولن يخدم المعارضة الإيرانية إلا إعلاميًا فحسب.
الحدث سيعد منعطفًا تاريخيًا في السياسة الخارجية السعودية في حالة واحدة، إن كان ضمن استراتيجية شاملة تعد لنقلة نوعية وانعطاف عن مسار امتنعت دول الخليج عن اتخاذه لعقود، وهو خيار «التدخل في الشؤون الإيرانية»؛ لأنه مسار أجبرتنا عليه طهران، ولم تترك لنا خيارًا آخر بعد ما كشفته الأجهزة الأمنية في البحرين والكويت والسعودية، فهي من اختارت حرب الوكالات عنوانًا للمرحلة القادمة.
امتناع دول الخليج عن التدخل في الشأن الداخلي لإيران طوال العقود الثلاثة الماضية، والاكتفاء (بمناشدة) إيران أن تراعي حسن الجوار كان مبدأ للسياسة الخليجية مع المجتمع الدولي بشكل عام، ومع جيرانها بشكل خاص. وعقلانية دول الخليج حافظت على إبقاء شعرة معاوية بيننا وبينهم حتى في عز الأزمات، وساعدها أن تولى الرئاسة في إيران تيار يدعو للتهدئة مع الجيران، على رأسه خاتمي الذي زار المنطقة، وبرّد خطوط التماس في فترة رئاسته.
اليوم اختلفت الظروف، فلم يعد للعقلانية مكان في إيران، بل أصبحت البراغماتية سيدة لموقفها، فمن كان يظن أن إيران ستكشف أوراقها وتعلن عن دعمها وتدريبها وتمويلها لطابور خامس خليجي وعربي، أعد له سلفًا بالتحالف مع قوى عظمى لإسقاط الأنظمة العربية بالشكل الذي باتت عليه منذ 2011؟
نعم مشاركة تركي الفيصل في مؤتمر باريس تعد منعطفًا تاريخيًا بالنسبة لسياسة النأي بالنفس التي اتبعتها المملكة العربية السعودية لسنوات، إلا أن البراغماتية الإيرانية السائدة، وبخاصة بعد الاتفاق النووي الإيراني الأميركي، وفي ظل هذه الفوضى العارمة من التحولات الخلفية في منطقتنا، جعلت من العقلانية ترفًا في غير موضعه.
خطوة كالتحالف الخليجي مع المعارضة الإيرانية، لغة يفهمها الملالي جيدًا، إنما لا بد أن تكون على عدة جبهات وترتكز على التأثير في الداخل الإيراني، ولم تعد فارقة سرية هذا التحالف من علنيته!!
TT
ماذا بعد باريس؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة