بدت تيريزا ماي، وزيرة داخلية بريطانيا، مرتبكة بعض الشيء وهي ترد على سؤال لم يخل من حرج وجهه لها نايجل كيث فاز، رئيس اللجنة البرلمانية للشؤون الداخلية. حصل ذلك يوم الثلاثاء 10 مايو (أيار) الحالي. النائب العمالي فاز، وهو أقدم عضو من أصل آسيوي بمجلس العموم، إذ يحتل مقعده نائبًا عن منطقة «ليستر إيست» منذ انتخابات 1987، انتهز فرصة (كل سياسي ماهر بالضرورة ماكر، ومن ثمّ نهّاز للفرص بامتياز) مثول السيدة ماي أمام لجنته لمناقشتها في جملة قضايا تخص عملها، كي يسألها عما إذا كانت قد ذهبت أبعد مما يجب في تصريح لها كان مضمونه أن العاصمة البريطانية لن تصبح آمنة إنْ أفاقت صباح النهار التالي للانتخابات البلدية (6 الحالي)، وقد أصبح عمدتها المرشح العمالي صديق خان. السيدة تيريزا ماري ماي، المحافظة التي تحتفظ بمقعدها النيابي منذ انتخابات 1997، والتي تولت لفترة موقع رئاسة حزبها، أجابت بما خلاصته أن تصريحها ذاك بات من الماضي، وأنها تتطلع للعمل مع عمدة لندن الجديد. الجواب المختصر لم يُقنع رئيس اللجنة المتحفز، وإذ أصر السيد فاز أن يسمع ما يعكس رنّة ندم على كلام مسز ماي المتسرّع، فقد ألقى السؤال عليها مجددًا، إنما على نحو معاكس: إذن، هل لندن آمنة الآن مع العمدة صديق خان؟ بيد أن تمرّس سيدة يحمّلها رئيس حكومتها مسؤولية أمن بلدها الداخلي، أعانها على الصمود أمام إصرار السيد فاز على إحراجها، والتصدي لمحاولته إنطاقها ما يشبه الاعتذار، فاكتفت بقول ما مضمونه: سأحرص على العمل مع مستر صديق خان ويجري التحضير لأول اجتماع لي معه. بيد أن مشكلة كلام الوزيرة المحافظة تيريزا ماي المناوئ للمرشح العمالي صديق خان، لم تكن فقط في نص التصريح، إنما أيضًا في اصطفافها، كوزيرة داخلية، إلى جانب مرشح حزبها، زاك غولد سميث. واضح هنا أن الحيادية كانت هي الموقف الأصح، بل الأوجب.
يستحضر ما جرى خطر فقدان السياسي السيطرة على أعصابه، لدرجة ينفلت معها اللسان بكلام يصعب أن يقبل به العقل. وها هو عمدة لندن السابق بوريس جونسون، الذي يريد إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يبدو كمن فقد عقله هو أيضًا، إذ يربط بين محاولة أدولف هتلر، وغيره من الزعامات الفاشية، لتوحيد أوروبا، وبين الصيغة الحالية القائمة على أسس ديمقراطية. هراء. لكن، ذلك بعض ما يمكن أن ينضح به إناء الساسة عندما يفقد واحدهم أعصابه، فيطير صوابه.
ما سبق ليس بجديد. بل هو قديم قِدم دهاء السياسيين وتحكم الغضب في كلامهم أو أفعالهم. أذكر، إذ أفتح دفتر تجربتي الصحافية، أنني سألت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن إمكانية الصلح بينه وبين الرئيس حافظ الأسد، بعد قطيعة وقعت بفعل الدور السوري في إخراجه من طرابلس بلبنان في ديسمبر (كانون الأول) 1983. ضرب أبو عمار سطح المكتب بقبضته وصرخ: مستعد للجلوس مع آرييل شارون ولن أجلس معه (الرئيس السوري) ثم علا صوته أكثر، وصاح باللهجة المصرية متحديًا: تقدر تنشر الكلام ده في مجلتك؟ أجبت: نعم، أستطيع، واستأنفت الحوار.
كان ذاك ذات فجر في صنعاء، منتصف ثمانينات القرن الماضي، وعندما وقفت للمغادرة، قلت: هل يسمح لي الرئيس بملاحظة؟ أجاب: تفضل. أضفت: كلامك الغاضب ضد الرئيس السوري هو «سكوب» صحافي لمجلة ممنوعة في سوريا، سوقها الرئيسية لها في العراق المعادي لنظام دمشق، لأنه يساند طهران في الحرب العراقية - الإيرانية. سأل أبو عمار: نعم، إذن ستنشر؟ قلت: النشر ليس المشكلة، لكن أليس من المحتمل أن يسد هذا الكلام الغاضب الطريق أمام أي احتمال مصالحة فلسطينية - سورية إلى الأبد؟ صمت أبو عمار. وإذ نهض القيادي صلاح خلف (أبو إياد) يصافحني مودعًا التفت إلى الرئيس عرفات قائلاً: «بلاش هالكلمتين أخ أبو عمار»، فوافق: «طيّب بلاش».
في مكاتب المجلة بلندن، رويت للكاتب الصحافي القدير فؤاد مطر، ناشر «التضامن» ورئيس تحريرها، ما جرى، فقال مبتسمًا: كنت سأفعل الشيء نفسه، ألسنا مع المثل القائل «كلمة بتحنن، وكلمة بتجنن»؟
صحيح.. حقًا، ما أخطر جنون الكلام، مذ كانت الكلمة ووُجِد متكلمون.
7:52 دقيقه
TT
خطورة جنون الكلمة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة