فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

موسكو تعزز حضورها في شرق المتوسط

يكاد يتفق متابعو الوضع في شرق المتوسط على أن روسيا عززت حضورها في المنطقة أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا في ضوء الانكفاء الغربي، لا سيما الأميركي في المنطقة، حيث علاقات موسكو مع نظام الأسد وإيران وإسرائيل في أحسن مستوى لها، ويمكن ضم العراق المرتبط بإيران أساسًا، الذي ينسق مع نظام الأسد في المرتبة ذاتها من حيث العلاقة مع روسيا، كما أن العلاقات الروسية - المصرية، تحسنت كثيرًا في العام الماضي، ومثلها العلاقات الأردنية - الروسية، ولا يبدو لبنان خارجًا عن هذا النسق بحكم علاقة السلطة فيه مع إيران ونظام الأسد ونتيجة سيطرة (حزب الله) وحلفائه على الوضع اللبناني.
وعلاقات روسيا مع البلدان الأخرى في المنطقة باستثناء تركيا، ليست سيئة. فأغلب هذه البلدان، بما فيها بلدان الخليج العربية، تعمل على تحسين علاقاتها مع الدولة الروسية، الأمر الذي تؤكده زيارات المسؤولين الخليجيين إلى موسكو، واللقاءات التي تعقد بين الطرفين في أكثر من عاصمة، ولا يخفف من هذه المساعي الاختلافات في المواقف حيال القضايا الحامية في المنطقة، لا سيما القضية السورية، بل إن ذلك من بين الأسباب الدافعة لتحسين العلاقات الروسية الخليجية، خصوصًا علاقات موسكو مع الرياض.
وسط النمو الواضح للحضور الروسي في شرق المتوسط، يمكن القول إن علاقات موسكو مع إيران، كانت المفتاح الأهم؛ ففي هذا الجانب عززت روسيا علاقاتها مع سلطة الملالي، التي كانت تبحث عمن يساعدها في تجاوز خلافاتها مع الغرب، وفي صراعها مع دول الإقليم، ويدعم استراتيجيتها في التمدد الإقليمي، ويعزز فرص نجاح مشروعها النووي المقام بمساعدة روسية، مقابل تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا، التي غدت موردًا رئيسيًا للسلاح والمعدات الإيرانية، خصوصًا في المجال الصاروخي، وهذا كله عزز نزوع موسكو نحو استقلاليتها وسعيها للعب دور، خصوصا في السياستين الإقليمية والدولية كما رسمهما العهد البوتيني.
لقد بدا من الطبيعي لروسيا، التي اعتمدت إيران مفتاحًا، إضافة إلى عوامل أخرى، أن تستغل تطورات المنطقة لحضور متزايد فيها على نحو ما تجسدت السياسة الروسية في سوريا وفي اليمن، وقبلهما في العراق، وفيها جميعًا تقاطعت المصالح والمواقف الروسية - الإيرانية. فالموقفان الروسي والإيراني، اتفقا على دعم نظام بشار الأسد في مواجهة ثورة السوريين في عام 2011. وقدما كل الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري والاستخباري للنظام، قبل أن يرسل كلاهما قواته للقتال إلى جانب النظام، بل إن الأهم من ذلك، أنهما توصلا إلى توافقات ضمنية عبر التشاور المشترك والمباشر على عدم تصادم مصالحهما في سوريا، التي غدت ساحة لنفوذهما، وقوة للتأثير على سياسات نظام الأسد، وقد بات أسير التوافقات الروسية - الإيرانية.
ولم يكن الموقف من نظام بشار الأسد وحيدًا في تعزيز علاقات موسكو - طهران، بل أضيف إليه المعلن في عدائهما لجماعات التطرف والإرهاب، خصوصًا «داعش» و«النصرة»، وقد أضاف الطرفان بشكل مشترك جماعات المعارضة المسلحة السورية المعتدلة إلى قائمة الإرهاب والتطرف، وهذا كان بين عوامل تمدد تفاهماتهما إلى العراق، حيث يواجه العراق «داعش» سواء من جانب السلطة المدعومة من إيران، أم من جانب الأكراد في إقليم كردستان العراق، وتكرر الأمر على النحو ذاته في لبنان، حيث وضع (حزب الله) بمرجعيته الإيرانية، وتحالفه اللبناني نفسه في مواجهة «داعش» و«النصرة»، وامتدادًا ضد كل جماعات المعارضة السورية المسلحة.
ومما لا شك فيه، أن مخاوف بلدان المشرق العربي، وخصوصًا مصر والأردن وبلدان الخليج العربية من تمدد جماعات الإرهاب والتطرف خاصة، لعبت دورًا في تطوير علاقات تلك الدول مع روسيا، التي أعلنت موقفها في الحرب على الإرهاب، وإن كانت في السياسة العملية والميدانية على نحو ما تجسدت في سوريا، الأقل فاعلية في الحرب على «داعش»، كما أكدت تقارير عمليات القوات الروسية في سوريا في الأشهر الستة التي انقضت على تدخلها هناك، حيث قاربت الهجمات ضد «داعش» العشرة في المائة من مجمل العمليات الروسية.
وثمة عامل آخر، ساهم في تعزيز الحضور الروسي في المشرق العربي، ممثلاً بالدور السياسي الذي قامت به بقايا التنظيمات والشخصيات الشيوعية واليسارية والقومية، التي هللت للدور الروسي ولتدخل روسيا في المنطقة تحت شعار مواجهة التدخلات الأميركية والغربية والجماعات الإرهابية المتطرفة، أو تحت شعار دعم قوى الممانعة، في إشارة إلى نظام الأسد وإيران و(حزب الله) اللبناني، وهو موقف كان يعكس انفصالاً عن الواقع سواء لجهة التحولات السياسية في المنطقة، أو لمجريات الأحداث الميدانية في سوريا والمنطقة.
والعامل الأخير في تعزيز الحضور الروسي في شرق المتوسط، يكمن في طبيعة العلاقات الروسية - الإسرائيلية، التي شهدت تحسنًا كبيرًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم تنامت أكثر في ظل البوتينية، حيث صيغت علاقات الطرفين بناء على المصالح المشتركة، وفتحت الأبواب على تعاون متعدد الأبعاد، خصوصا من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، وتقاطعت تلك المصالح في الموقف من سياسة إيران ونظام الأسد وحليفهما (حزب الله) اللبناني لجهة خروجهم حتى من حرب لفظية معلنة مع إسرائيل وانتقالهم إلى الحرب على دول وشعوب المنطقة، مما بدد المخاوف الإسرائيلية، وجعل تل أبيب أقل حذرًا من علاقات حلف إيران مع روسيا، خصوصًا في ظل إقامة خط اتصال مباشر روسي - إسرائيلي يتعلق بما يجري في سوريا وحولها، وفي ضوء تعميق التعاون الاستخباري بين موسكو وتل أبيب.
لقد جمعت موسكو ونسقت أوراقها في المنطقة، من إيران إلى الأسد إلى إسرائيل، ومدت حضورها مستفيدة من أزمات المنطقة ومشكلاتها، لتصير القوة التي ينبغي التفاهم معها، وهو أمر يمكن أن يستمر، ما لم تتغير حالة التشتت والضعف في الموقف العربي، المتلازمة مع التخلي الغربي الأميركي عن المنطقة.