عشت كما عاش جيلي منذ بدايات التحرر من الاستعمار في الخمسينات والستينات الميلادية من القرن المنصرم، وشهدنا بدايات الانطلاقة النهضوية العربية، التي عُقدت عليها الآمال لبداية عصر جديد، تشرق شموسه على الأمة في جميع أقطارها، فتتحقق بذلك وحدتها وعزتها ورخاؤها، حلم الانطلاق لعصر جديد، يعاد فيه بناء أمة حديثة عصرية تقدمية، فاعلة في بناء الحضارة الإنسانية والمساهمة في تطور حياة الإنسان، لا أن تكون أمة مستفيدة من نتاج العالم حولها، عالة على البشرية.
الظرف الحالي الذي تمر به الأمتان العربية والإسلامية اليوم، يجعل من كان يعيش ذلك الحلم، وقضى سنين حياته في متابعته ومعايشة التطورات المتلاحقة بنجاحاتها وإخفاقاتها عبر السنين، يعيش اليوم مرارة الحاضر، ويتجرع آلام مرحلة عصيبة تشعره بالتيه في زمن فقدت العقول صوابها، وتخلى رجال الفكر عن مبادئهم وسادت روح التشرذم والأنانية، زمن تداخلت فيه الأمور، وأصبح الإنسان يتصرف كما لو أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة، التي لا بد للجميع من التسليم بها.
لا أجيد ولا أحبذ البكائيات والتحسر على ما نحن فيه من مأزق تاريخي، ولكني أحسب أن الوضع الرديء الذي نمر به يتطلب من القيادات العربية والإسلامية العمل الفاعل، والتفكير الجاد والحكيم خارج الأنانية والانفعال وتبسيط الأمور فالخطب جلل، القيادات العربية مسؤولة أمام الله وأمام شعوبها وأمام التاريخ، بوضع تدابير فاعلة، لكيفية الخروج من هذا المأزق التاريخي الحرج، وذلك من خلال إعادة الثقة بالشخصية العربية والإسلامية، وإعادة السلم الأهلي بين الطوائف والنحل، والقضاء على جرثومة الطائفية اللعينة التي غُرست في البيئة العربية والإسلامية لإضعافها، وتفريق صفوفها، لا بد من التفكير بكيف نخرج من هذا المأزق وبتكاليف قليلة تحفظ للأمة مواردها البشرية والمادية.
أمتنا اليوم في حاجة ماسة لإعادة بناء الثقة من جديد بين جميع مكوناتها، الأمة اليوم في حاجة ماسة للتفكير المتوازن الذي يقود إلى نبذ العنف، وعدم التدخل في شؤون الآخر، الأمة اليوم في حاجة ماسة، لإسكات كل القنوات التي تغذي العنف والهجوم على الآخر من جميع الأطراف، الأمة اليوم في حاجة إلى بناء جيل منتج منضبط يحترم الآخر، ويعمل لمستقبل أفضل.
قدرنا أننا نعيش في منطقة تتنوع فيها الأعراق والديانات والمذاهب، عاش فيها أجدادنا متعايشين، في ظل دين ساوى بين الناس في المعاملة على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، وعلى من يشك في ذلك قراءة سيرة سيدنا الرسول الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه من الخلفاء، والحكومات الإسلامية المتعاقبة. لا مجال لنا في إقصاء أي من مكونات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، عرقية كانت أو مذهبية أو دينية، فهم نحن ونحن هم.
السبيل إلى عودتنا إلى مشروع بناء الأمة وتعزيز رخاء شعوبها، يستلزم بالضرورة وضع برامج محددة قابلة للتنفيذ تحقق ما يلي: أولاً، أن نُخرس أبواق الفتنة المنتشرة بيننا، ثانيًا، إصدار ميثاق شرف بين أقطار الأمة يجرّم التدخل في شؤون أي بلد من بلدانها، ثالثًا، أن يوضع برنامج في كل دولة لنشر فكر التسامح وقبول الآخر، وزرع ذلك الفكر في أجيالنا، وتجنيدهم لعمل الخير، والمواطنة الحقة، ونبذ العنف بكل أشكاله.
كما يجدر بنا أن نفكر بعمق حول أهداف القوى الخارجية بالنسبة لمنطقتنا، ليس من المنطق أن تكون تلك القوى حليفًا موثوقا لنا، فلا يجمعنا بها تاريخ أو جغرافيا أو حضارة، لقد أُخرجت من منطقتنا العربية في شمال أفريقيا وبقية الوطن العربي والإسلامي لا بإرادتها، بل بتضحيات أبناء المنطقة العربية والإسلامية، إن من يزرع جسمًا غريبًا يفصل بين مشرقنا العربي ومغربنا الأفريقي، ويدعمه بالمال والسلاح ويعتبره حليفه الاستراتيجي في منطقتنا، لا يمكن أن يكون صديقًا وحليفًا لنا، القوى الخارجية تعلم أن تقدمنا ووحدتنا ليست في صالحها، أو صالح إسرائيل، لذا وجب علينا أن نتبصر في كل ما تقدمه لنا من نصح أو مشورة، فذلك بالضرورة لخدمة مصالحها، وهذا بالطبع من حقها، في عالم اليوم الذي فقدت فيه المبادئ والقيم الإنسانية العليا، كل يعمل من أجل مصالحه، ومصلحتنا أولاً وأخيرًا هي في وحدة الأمة وتطورها ورخاء شعوبها، وهنا أقول، إن على منظمات التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، أن تفيق من سباتها وأن تبدأ بالعمل الجاد لإصلاح شأن الأمة للخروج من هذا المأزق التاريخي من خلال برامج محددة يلتزم بها الجميع.
* كاتب سعودي
11:30 دقيقه
TT
السبيل للخروج من المأزق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
