كان منظرًا مهيبًا ستذكره الأجيال طويلاً. عشرات الآلاف من الجنود ووحدات من جيوش 20 دولة تنضوي تحت لواء أول عمل مشترك من نوعه، على مساحة 900 كيلومتر مربع، شمال السعودية وقرب الحدود العراقية. لم تكن مناورات «رعد الشمال» تمرينًا عسكريًا لم يسبق له مثيل فحسب، بل كان رسالة سياسية قبل كونها عسكرية، قرأها البعض، وأنصتَ لها بعض آخر، وحفظها عن ظهر قلب بعض ثالث، فهي المرة الأولى التي تعتمد فيها دول المنطقة على تحالفاتها بنفسها، لا على التحالفات التي يصنعها الآخرون، المرة الأولى التي تقولها دول المنطقة، عمليًا، بأنها قادرة على إيقاف العبث باستقرارها وأمنها، المرة الأولى التي لا تحتاج إلى دول كبرى تعمل غطاء أو مظلة. «رعد الشمال» أسّست معادلة جديدة للتوازنات في المنطقة، انطلقت من «عاصفة الحزم» وتبلورت في حفر الباطن، وتعززت بـ«رعد الشمال».
في ظني، هناك أربع رسائل ترسلها «رعد الشمال»، الأولى لكل أولئك الذين يخططون لإشعال فتيل الفوضى والانقضاض على الدول، لكل الجماعات والميليشيات التي غدت دولة تقع على رأس الدولة، مثل «حزب الله»، و«داعش»، و«القاعدة»، و«الحشد الشعبي»، وغيرها من الجماعات الإرهابية المتطرفة، بأن التحالف الإسلامي العسكري لن يسمح باستمرار فوضى الإرهاب وتقويضه لأمن دوله واستقرارها، أما الرسالة الثانية فهي للدول الكبرى وحلفاء المنطقة التاريخيين، بأن عصر التحالفات الإقليمية، أصبح موازيًا للتحالفات التقليدية، التي يمكن القول إنها بطريقتها الحالية لم تعد، وحدها، مجدية، ليس لضعف فيها ولا تخلصًا منها، بل لأن بعض الأزمات لا مناص من حلها من قبل دول المنطقة بنفسها، ليس على طريقة «بيدي لا بيد عمرو»، طبعًا، ولكن على نمط: «فانحلّ ما كان معقودًا بأنفسنا»، لا انتظارًا لدولة مثل الولايات المتحدة تقرر ما إذا كان ينبغي محاربة الإرهاب أم لا، وبطريقتها ووفق استراتيجياتها وبحسب رؤيتها، مع عدم إغفال أهمية بقاء هذه الدول حليفة تقليدية لا يمكن الاستغناء عنها تمامًا، وكذلك عدم الاعتماد عليها وحدها تمامًا، في حين أن الرسالة الثالثة كانت لجارتنا على الضفة الشرقية من الخليج العربي، إيران، بأن هذا التمرين ليس موجهًا ضدها، فالنظام الإيراني لا يحتمل أصلاً أي مواجهة مباشرة، وليس من استراتيجيته التصعيد والوصول للمواجهة العسكرية، بقدر ما تعتمد استراتيجيته على أدواته وميليشياته المنتشرة في المنطقة، إنما الرسالة تقول إن كل أذرع إيران وميليشياتها سيتم تحجيمها أولاً ثم بترها، بالطبع ليس بلغة الإرهاب التي تفهمها إيران جيدًا، وإنما بلغة القانون الدولي، ووفق تكتيكات سياسية وعسكرية قادرة على ضرب الجماعات الإرهابية في مقتل، أما الرسالة الرابعة فهي لشعوب دول التحالف بأن لدى دولكم الجاهزية القتالية والعقيدة العسكرية المشتركة لمواجهة التحديات والتهديدات المحتملة كافة، فلا تستهينوا بعد اليوم بقدراتكم وإمكانياتكم.
لطالما كانت السهام موجّهة للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لعجزهما عن مواجهة التحديات التي تعيشها المنطقة ودولها. كل المشاريع السياسية والاقتصادية الكبرى التي انبثقت عن هاتين المنظمتين، يمكن القول إنها لم تنجح أبدًا، أما تلك المشاريع التي تحدثت عمّا يشبه تشكيل قوة عسكرية موحدة، فغني عن القول إنها فشلت قبل أن ينتهي الاجتماع الذي أقرها، اللافت هنا أن ما عجزت عن تحقيقه الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإسلامية في عقود طوال، نجح في تحقيقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في عام، ليس لأن بلاده هي الأقوى سياسيًا أو عسكريًا أو حتى اقتصاديًا، وإنما لأن السعودية وحدها القادرة على إنشاء مثل هذه التحالفات وتعزيزها وتقويتها، هذا كل ما في الأمر، وحلفاؤها يعلمون ذلك ويقدرونه، ويتفهمون أن المملكة لا تبحث لها عن دور، بقدر ما أنها تثبت مجددًا أنها على قدر الدور المنتظر منها.
8:2 دقيقه
TT
«رعد الشمال».. التحالفات تتغير
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة