لقد تأكد للكثير من القادة السياسيين والمحللين؛ أن استخدام إيران للأدوات المذهبية لتكون غطاءً لخلافاتها القومية والسياسية مع الدول العربية والإسلامية له آثار كارثية على وحدة منطقة الشرق الأوسط واستقرارها. إلا أن كثيرًا من الخبراء والمحللين لم ينتبهوا في الماضي للعواقب الخطيرة لنزعة النظام الإيراني في اللعب على الوتر الطائفي على حساب قيم التعايش السلمي المشترك بين مذاهب المسلمين وتوجهاتهم، وكذلك بينهم وبين الأديان والثقافات الأخرى، وذلك لعوامل متعددة لا يتسع المجال لذكرها.
وانطلاقًا من اهتمامي بقضايا الحوار والتعايش بين المذاهب الإسلامية، وبين المسلمين وغيرهم، فإن سلوك النظام الإيراني خلال العقود الماضية نسف الجهود المبذولة لتحقيق التعايش بين المسلمين، وأحدث شرخًا كبيرًا في مسار التعايش المذهبي في العالم الإسلامي، وساهم في تكريس الصورة الذهنية السلبية عن العالم الإسلامي في الخارج كمنطقة صراعات طائفية، ومصدر تهديد للأمن العالمي.
لقد سعى النظام الإيراني، منذ عام 1979م، إلى تصدير مشروع ثورته للدول العربية والإسلامية من خلال استخدام أدوات مذهبية، وزج بالمنطقة في دوامة من الأزمات المتصاعدة.
إن منهج تسييس الخلافات المذهبية، واستخدام الشعارات الدينية لأغراض سياسية الذي ظل يمارسه النظام الإيراني بناء على نظرية ولاية الفقيه، أصبح هو الأداة الرئيسية للدعاية التي قام عليها مشروع تصدير الثورة في الدول العربية والإسلامية. وبناء على هذا المبدأ حاولت بعض المراجع الدينية والقيادات السياسية الإيرانية استغلال بعض الشيعة العرب في المنطقة لنشر تلك الدعاية. وفي ذلك السياق، تم تأسيس تنظيم حزب الله في لبنان عام 1982م، وخلايا سرية وتنظيمات علنية في سوريا والعراق ودول إسلامية أخرى في آسيا ومجتمعات إسلامية في أوروبا وأميركا وأفريقيا. وفي عام 1992م قامت القيادة الإيرانية بتبني جماعة الحوثي في اليمن وربطها بمشروعها الثوري، لتضع بذرة الشقاق الطائفي في ذلك البلد الشقيق. هذا بالنسبة للمكون الذي زرعه النظام الإيراني في المنطقة العربية. أما بالنسبة للحركات الإسلامية التي ارتبطت في علاقاتها مع إيران، فقد كانت الشعارات الإسلامية، كتحرير الأقصى والدفاع عن فلسطين، مدخلا لتلك العلاقة، فيما كان يسمى الممانعة بصورته المزيفة ضد القوى الغربية الكبرى وإسرائيل مدخلاً لعلاقة إيران مع النظام السوري، وغيره من الأنظمة والمنظمات. وعلى الرغم من أن الغالبية من إخواننا الشيعة ومراجعهم الكبار كانوا قد كتبوا آراء وفتاوى واضحة وصريحة ضد التجييش الطائفي الذي تقوده إيران، كالمرجع الشيعي اللبناني العلامة محمد مهدي شمس الدين، الذي أفتى وصرح بأن يكون ولاء الشيعة في كل بلد عربي لأوطانهم ودولهم، حفاظًا على اللحمة الوطنية، ودعمًا للأمن والاستقرار والتزامًا بمبدأ التعايش المذهبي بين المسلمين وغيره من العلماء من أبناء الدول العربية؛ فإن النظام الإيراني استطاع أن يجند ويوظف وكلاء له في تلك البيئات الشيعية للزج بهم في تطبيق أجندته ودعايته السياسية ونشر مخططه التخريبي الهادف إلى تقويض الدولة العربية من ناحية، واستثمار نفوذها بين بعض الشيعة العرب من خلال تلك الأذرع كأوراق ابتزاز ضد خصومها الإقليميين والدوليين من ناحية أخرى.
ويمكن للمراقب أن يسوق الكثير من الأمثلة على كيفية استخدام النظام الإيراني للورقة المذهبية؛ إما لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، أو لابتزاز خصومها الإقليميين والدوليين؛ فبالإضافة إلى أن المفاوضات بين النظام الإيراني والدول الغربية حول برنامجه النووي تعد مثالاً واضحًا على هذا النهج، نجد أن النظام الإيراني لم يتوانَ عن توظيف الخلافات المذهبية في تسييس بعض الحوادث التي تقع في مواسم الحج وغيرها من الأحداث التي كان آخرها افتعال أزمة مع المملكة العربية السعودية على خلفية تنفيذ الأحكام الشرعية بحق بعض الإرهابيين، حيث وصل التصعيد إلى حرق سفارة المملكة بطهران، والاعتداء على قنصليتها بمدينة مشهد.
إن ذلك الاعتداء من حرق لسفارة المملكة هو اعتداء مخالف للمواثيق الدولية، ولا عذر لإيران عن تحمل مسؤوليتها في حماية مبنى السفارة من التخريب، وأن التاريخ ليشهد أن السعودية لم يسبق لها التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، ولها سجل حافل في الإنجازات في المحافظة على كل زائر وحاج ومعتمر وعلى كل مؤسسات وبعثات الدول الأجنبية.
إن أكثر ما يثير القلق هو أن النظام الإيراني لم يكتفِ بتجنيد المجموعات الطائفية لتحقيق أهداف سياسته الخارجية في العالم الإسلامي، بل تطور هذا السلوك إلى نمط بدائي وخطير من السلوك السياسي، وهو: عسكرة الخلافات المذهبية بين المسلمين، حيث استغل النظام الإيراني عدم الاستقرار السياسي في كل من لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن لتأسيس ميليشيات طائفية مسلحة. لقد ترتب على هذه السياسة، أي عسكرة الخلافات المذهبية، مجموعة من التداعيات الكارثية التي سوف تدفع المنطقة برمتها ثمنًا فادحًا، فبالإضافة إلى إضعاف مؤسسات الدول العربية (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن)، وارتكاب المجازر ذات الطابع المذهبي (سوريا، والعراق)، وتزايد نفوذ الحركات الإرهابية المضادة (تنظيم القاعدة، وتنظيم داعش الإرهابيين كمثالين فقط)، فقد ترتب على السياسات الإيرانية الطائفية استقطاب طائفي غير مسبوق في العالم الإسلامي. وعندما يكون الاستقطاب الطائفي مصحوبًا بالصراع المسلح، فإن الحديث عن التعايش والحوار بين المسلمين يصبح أمرًا غاية في الصعوبة. أنه لمن المشروع أن يتساءل المراقب لأحوال المنطقة: لماذا تأخذ الصراعات في بعض الدول العربية التي اخترقها النفوذ الإيراني الطابع المذهبي (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، والبحرين)؟ في حين أن دولاً أخرى تعاني من صراعات دموية، ولكنها ما زالت خارج نفوذ التأثير الإيراني، تأخذ الصراعات فيها الطابع السياسي أو العسكري، وليس المذهبي.
وإنه لمن المؤسف نتيجة سياسات النظام الإيراني المتهورة، أن أصبح العالم الخارجي ينظر للعالم الإسلامي كمنطقة ملتهبة دينيًا وطائفيًا، وغير قادرة على النمو، بل وأصبحت تشكل خطرًا على أمن العالم. هكذا وجدت الجاليات المسلمة في الغرب نفسها في حالة من الرعب والارتباك، حيث امتدت لها تداعيات سياسات التجييش الطائفي التي تبنتها إيران خلال العقود الثلاثة الماضية.
لقد ظلت سياسة المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مرتكزة على مجموعة من الثوابت، لعل من أهمها العمل على تحقيق وحدة المسلمين وتوحيد صفوفهم، من غير تدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى. كما نجحت قيادة هذه البلاد باستخدام فعال لأدوات سياستها الخارجية، وأهمها تعزيز التعاون والتحالف العربي والإسلامي، وتيسير مواردها المالية في خدمة ودعم المشاريع الإنسانية في مختلف مناطق العالم، ومناصرة القضايا العادلة للعرب؛ كالموقف الرسمي والشعبي مع الثورة السورية، وإطلاق «عاصفة الحزم» كعملية اضطرارية مسنودة بالمشروعية اليمنية والعربية والدولية من أجل حماية أمن واستقرار ووحدة اليمن، والأمن الخليجي والعربي من التوغلات الإقليمية، لكن المملكة في الوقت ذاته، ولاعتبارات دينية وأخلاقية، وعملية، تجنبت استخدام الورقة المذهبية كأداة لسياستها الخارجية، لأنها سعت انطلاقًا من ثوابتها الشرعية والوطنية، لتحقيق التقارب والتعايش المشترك بين كل أطياف المجتمعات المسلمة، سواء من خلال الهيئات والمنظمات الإسلامية أو من خلال المؤتمرات، أو الندوات، أو المراكز الخاصة بالحوار. وفي الوقت الذي تسعى فيه المملكة لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه الفكرية، والمالية، والسياسية، وتحسين الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين حول العالم، بما لها من سجل ناجح في مكافحة الإرهاب طورت المملكة خططا فعالة لمحاربة الإرهابيين وتفكيك شبكاتهم عبر الكثير من أساليب المواجهة الأمنية والفكرية، وعبر الكثير من برامج إعادة الدمج كبرنامج ولي العهد (برنامج المناصحة) لإعادة تأهيل المتطرفين، وغيرها من البرامج يدفع النظام الإيراني بالمزيد من التجييش المذهبي، من أجل تفتيت العالم الإسلامي على أساس مذهبي. ومن هنا تأتي ضرورة التأكيد على حق المملكة بتبني استراتيجية حازمة، وفي إطار ثوابتها الدينية والوطنية، لحماية شعبها وأمنها، ووضع حد لسياسات النظام الإيراني الطائفية في المنطقة. إن قطع المملكة العربية السعودية علاقاتها السياسية مع إيران، وهو الإجراء الذي اتخذته بعض الدول العربية والخليجية، هو الرد الطبيعي ليس فقط على جريمة النظام الإيراني في حق البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران وإحراق مبنى السفارة السعودية هناك؛ وإنما هو كذلك رد مشروع؛ لأن ما سببه ويسببه النظام الإيراني من تخريب في المنطقة العربية، من زرع للفتن وتكريس للتخندق والاقتتال الطائفي؛ تحول اليوم إلى كوارث لا تطاق في البلدان العربية.
وإذ تمارس قيادة هذه البلاد المباركة حقها المشروع في الدفاع عن نفسها، فإنها في ذات الوقت تحافظ على وحدة العالم الإسلامي في مواجهة أخطار الاحتراب الطائفي الذي يعد نتيجة حتمية لسياسات النظام الإيراني الطائفية، وتعزيز التعايش المشترك بين المذاهب الإسلامية، وتحسين صورة الإسلام والمسلمين لدى العالم الخارجي، ومن المأمول بمشيئة الله أن يحقق التحالف الإسلامي نقلة نوعية في مواجهة الإرهاب والتطرف عسكريًا وفكريًا على كل الأصعدة.
* الأمين العام لمركز
الملك عبد العزيز للحوار الوطني