فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

زميلنا الرئيس السادات

استمع إلى المقالة

بحكم واجبي في تغطية التطورات المصرية على مدى ثلاثة عقود متتالية كانت التنقلات والسفر من بيروت إلى القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وأسوان السد العالي بصور متتالية. كتبتُ الكثير عن المسيرة السياسية للرؤساء المتتالين على حُكْم مصر، جمال عبد الناصر وأنور السادات الذي تسلَّم القيادة بعد الوفاة المفاجئة للرئيس عبد الناصر، ثم جاء الرئيس حسني مبارك. وكانت الأحداث السياسية هي محور التغطية.

مارس السادات، دورَ الصحافي، وكان عضواً في مجلس قيادة «ثورة 23 يوليو 1952، مشْرفاً على صحيفة «الجمهورية». لكن هذه الصفة لا تعني أنه لم يُمارس مهنة الصحافة والكتابة مِن قبل «ثورة 23 يوليو»؛ حيث إنه بسبب دوره في عملية اغتيال شخصية سياسية مرموقة عام 1946، ونعني بذلك «قضية اغتيال أمين عثمان»، تم إيداعه السجن، فنَشط كتابياً مع سجناء آخرين في نشْر أوراق ذات صفة صحافية علَّقوها على جدران السجن، ثم على حد ما ذَكَره الدكتور خالد عزب وعمرو شلبي في كتاب نشراه بعد ثلاثين سنة من اغتيال السادات، أصدر المساجين، ومنهم أنور السادات، مجلة بتسمية «الهنكرة والمنكَرة»، تلتْها مجلة بتسمية «التاج الأحمر». وكون السادات يُتقن اللغة الألمانية ترجم إلى العربية أعمالاً استهوته قراءته لها. ومثْل هذا الإلمام باللغة الألمانية نادرٌ، كون المصريين في ذلك الزمن ألمّوا بنِسب متفاوتة باللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية. تجربة الكتابة والترجمة في سنوات ما قبْل انتسابه إلى «ثورة 23 يوليو»، أفادته في أنه بات يكتب مقالات تنشرها مجلات زمن انطلاق ظاهرة النشر، متمثلة في «روز اليوسف» و«الزمان» و«دار الهلال».

وهنا نجد أنور السادات، ذلك الصحافي الذي يتقاضى أجراً مقابل ما يكتبه. وهذا شجعه على أن يزوِّد الدار الهلالية بمذكرات حول الثلاثين شهراً التي أمضاها سجيناً. لكن تبقى مقالاته في صحيفة «الجمهورية» وكذلك في مجلة «التحرير» هي اللافتة، بصفة كونه من ضباط الثورة (والوحيد بين الضباط الذي تلا البيان الأول للثورة) هي العاكسة في ثنايا كلماتها موقف «ثورة 23 يوليو». ومثْل هذا الدور بات لاحقاً من نصيب محمد حسنين هيكل الذي اعتمده عبد الناصر ناطقاً بأفكاره أو مشاركاً في أجواء اتخاذ القرار، مع أنَّ السادات كان نائب الرئيس. لكن ما كانت تتضمنه مقالات يكتبها السادات كَشَفَ حقائق وخفايا عن قوى تعارض «ثورة 23 يوليو»، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين، التي لم تُوقِف حراكها ضد الحقبة الناصرية، تليها الحقب التي قاد البلاد فيها أنور السادات بعدما بات رئيساً، ثم يكمل الرئيس حسني مبارك دور التصدي، لتحدُث بعد ذلك سنة حُكم إخوانية ما لبث أن طوى صفحتها الرئيس عبد الفتاح السيسي. عدا البداية الساداتية الصحافية كتب الرئيس السادات مذكراته تحت عنوان «قصة الثورة كاملة»، وصدرت في كتاب عام 2015.

وفي تقديمه للكتاب والمذكرات يعرض وقائع. كما أن تسمية فصول المذكرات تعكس مراحل ومواقف بتسميات مثْل «الديمقراطية المزيفة» و«لسنا شيوعيين» و«الثورة والرجعية» و«أعداء الثورة» و«الثورة وطريق الدم» و«أحداث الليلة الأُولى» و«الثورة وزعماء الأحزاب» و«تحديد المُلْكية» و«الثورة والدستور»، منهياً كونه اختار لشخصه صفة «الرئيس المؤمن» في فصل بعنوان «يا رب»، يختمه بالسطور الآتية وفي صيغة دعاء وهي: «يا رب إنك تعْلم ما نُخفي وما نعلن فاملأ قلبي وأفئدة قومي دائماً بالبِشْر والحب والرجاء». كما أن الرئيس السادات (المفعم إعجاباً بشخصية كل من أحمد عرابي ومصطفى كامل، رمزي العمل الوطني في الثلاثينات والأربعينات) نُشِر له في العام نفسه 2015 جانبٌ من مذكراته في كتاب يروي في فصوله التسعة، وبعنوان «قصة الوحدة العربية»، معاناة التجربة الثورية المصرية حول الوحدة العربية بعد انفصال سوريا عن «الجمهورية العربية المتحدة» التي أقامها الرئيسان جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، وأطاحتها مجموعة من الضباط السوريين وهي لم تُكمل سنتها الثانية.

والفصول التي يحويها «قصة الوحدة العربية» على نحو قراءة السادات وتوثيقه لها ونشْر مذكراته حولها، بعدما بات ركناها عبد الناصر والقوتلي في ذمة الله، هي «الوطنية المصرية والقومية العربية» و«الوحدة المظلومة» و«حكاية الزعامة المزعومة» و«وحدة العرب والاستعمار» و«الجبهة المسلحة» و«العرب وإسرائيل» و«حكاية الفراغ ومشروع أيزنهاور»، و«ماذا يريد العرب؟» و«شرق وغرب». واللافت أنَّ الرئيس السادات، الذي أبرم اتفاقية سلام مع إسرائيل تُعرف ﺑ«اتفاقية كامب ديفيد»، يستحضر في مذكراته هذه دور بن غوريون في استيلاد دولة إسرائيل، كما يستحضر في هذا الشأن النص الصريح في «التلمود» على أن قتْل غير اليهودي حلال لليهودي، وتقرُّبٌ إلى الله، و«إنكم بعد أن تحتلوا أرض إسرائيل يحق لكم أن تحتلوا غيرها».

يبقى أن هذه الإضاءة على حقبة من حياة قائد مصري حقق انتصاراً غير مسبوق على إسرائيل، هي أن أنور السادات، الذي اغتيل يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 وهو في عز حيويته عن 62 سنة، سيمد دنيا المعلومات بالكثير من الوقائع، وبالذات دواعي السلام مع إسرائيل، كما ربما يُخرج من الخزائن ملفات تحوي من الأسرار ما تضيء للأمة الكثير حول مواقف اختلط فيها الحرص بالسرية، فهو كان ماضياً، حتى بعد حدوث «ثورة 23 يوليو 1952»، شغوفاً بالعمل الصحافي والتأليف وكتابة المذكرات، ومِن هنا فإنه زميل كل صاحب قلم، صحافياً كان أو مؤلفاً، ومن هذه كان يلهث وراء المخفي من أسرار ومعلومات. رحمة الله عليه.