ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

جواسيس وفلاسفة

استمع إلى المقالة

لم يشعر أحد من سكان ذلك الحي الأنيق في واشنطن بالدهشة أو الاستغراب عندما جاء ليستقرّ فيه فيليب جينينغز، وزوجته إليزابيت، مع ولدَيهما بايج وهنري. أسرة كانت تجسِّد المثل الأميركية التقليدية: بايج كانت الساعد الأيمن للمبشِّر الإنجيلي في كنيسة الحي التي تعمّدت فيها، وهنري المتفوق في الرياضة والرياضيات والذي كانت أفضل المعاهد تتنافس لاجتذابه بالمنح الدراسية والمغريات، أما مصدر رزق العائلة فكان من خلال وكالة سفر في جوار سكن السيّد ستان بيمان، الموظف في مكتب التحقيقات الفيدرالي والمتخصص في مكافحة التجسس، والذي أصبح من أقرب أصدقاء الأسرة.

المسلسل الذي يسرد قصة هذه العائلة يحمل عنوان «الأميركيون»، وضعه جو وايزبيرغ، وشارك في تصويره أكثر من مخرج ومنتج، لكنه يتميَّز عن غيره من المسلسلات بمستوى فكري عالٍ أعتقد أنه كان السبب في عدم نيله ما يستحق من إقبال ونجاح. وهذا بالتحديد ما يدفعني إلى التوصية بمشاهدته لمَن أنهكته المطالعة ويبحث عن سبيل للترفيه والتسلية.

بعكس المظاهر البادية عليها، ليست هذه العائلة أميركية، بل هي روسية، ولا تربط بين فيليب وإليزابيت علاقة زواج، رغم أنهما مع مرور الوقت سوف يقترنان أمام كاهن روسي في واشنطن. منذ صغرهما تتلمذا على يد المخابرات السوفياتية للعمل والتجسس في بلاد العدو الأميركي. وقد نجحا في أداء المهام التي كانت موكلة إليهما طوال السنوات التي أمضياها في واشنطن دون أن تتمكَّن أجهزة مكافحة التجسس الأميركية من كشفهما بينما كانا ينقلان المعلومات إلى موسكو ويقومان بتصفية أعداء الإمبراطورية السوفياتية، الحقيقيين والوهميين. تدور الأحداث في عصر الرئيس الأميركي رونالد ريغان وما أطلق عليها «حرب النجوم»، التي كان يضغط بها على الاتحاد السوفياتي، كاشفاً انهيار الاقتصاد الاشتراكي وعجزه عن منافسة الولايات المتحدة في ذلك السباق المجنون حول الصواريخ الفضائية، الذي تسبّب في إنهاكه وفجَّر تلك الأزمة العميقة التي من رحمها خرج غورباتشوف ثم طُويت صفحة الشيوعية السوفياتية.

تلك الأزمة أحدثت اضطرابات هائلة داخل الاتحاد السوفياتي عندما حاول معسكر الرجعيين إزاحة غورباتشوف وأنصار انفتاح النظام الشيوعي على الديمقراطية، وإعطاء تنازلات تسمح بالتوصل إلى اتفاق مع الغرب يهدف إلى نزع تدريجي للأسلحة النووية. جهاز الاستخبارات «كي جي بي» جنح نحو أقصى اليمين كما تبيّن من الشرخ الذي أحدثه ذلك الانفتاح في عائلة جينينغز، حيث بدا هنري متذمراً من حياته الزائفة والاغتيالات وتلاعب الأجهزة بحياته، وقرَّر التخلي عن مهنته السرية، بينما بقيت إليزابيت مواظبة على ممارستها، بالحماس الدامي نفسه الذي بدأت به. أما ستان بيمان من جهته، وبعد أن أقام علاقة سرية مع جاسوس روسي، فقد كان حائراً أمام تعاقب الأحداث والتطورات في الاتحاد السوفياتي خلال تلك المرحلة.

«الأميركيون» عمل فني ممتاز يسرد وقائع تلك الحياة المزدوجة لهذين الزوجين، والصداقة الوطيدة التي ربطتهما بعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي، والرحلات التي كانوا يقومون بها إلى الأرياف، ويتقاسمون الأطعمة والحلويات التقليدية أيام الآحاد والأعياد. وكان الولدان، هنري وإليزابيت، يترددان كثيراً على منزل ستان، حيث كانا يشعران بالمتعة في مجالسته.

والجواسيس ليسوا تلك الكائنات الخالية من المشاعر والرحمة كما تصورهم لنا الأفلام السينمائية، بل هم يهتمون بالأبعاد الثقافية والسياسية والأخلاقية لمهنتهم، ويواظبون على قراءة الصحف، كما تفعل إليزابيت كلما تظهر في المسلسل، وبين يديها «واشنطن بوست» أو «نيويورك تايمز»، أو تسترسل في تحليلاتها للأوضاع والتطورات الدولية وعلاقتها المحتملة بالنشاط الذي تزاوله مع زوجها. كل ذلك يتيح للمشاهد أن يتابع من كثب ما يخالج إليزابيت وفيليب من شواغل أخلاقية بسبب المهنة التي يمارسانها. كلاهما تربّى على عقيدة مفادها أن الوطن يجب أن يدافع عن نفسه ضد عدو يعمل لتدمير الاتحاد السوفياتي والشيوعية، لكن الأحداث الأخيرة بدأت تثير لديهما الشكوك حول الأفكار والمعتقدات التي نشأ كلاهما عليها، وراح فيليب يتساءل إذا كان ما يحصل مجرد مناورة لكي تبقى الزمرة ذاتها ممسكةً بالسلطة، وتتشدّق بمحاسن النظام الاشتراكي والمجتمع اللاطبقي والحرية «الحقيقية»، التي لا وجود لها في الاتحاد السوفياتي.

ستان بيمان رجل يتمتع بأخلاق عالية رغم المهنة التي يزاولها، ويعرف أن المجتمع الديمقراطي يجب أن يكون محصّناً ضد الأعداء والخصوم، وأن مهنته غالباً ما تقتضي الخروج عن قواعد الشرعية والسلوك الأخلاقي. لكنه يبذل جهداً لممارسة عمله ضمن حدود القانون والأخلاق، فيجد نفسه في صدام مع زملائه ورؤسائه، ويتفاقم الوضع عندما يبلِّغه أحدهم أن خطيبته قد تكون هي أيضاً موفدة من جهاز «كي جي بي» لتوقعه في حبائلها. ويشارك بيمان في أكثر مشاهد المسلسل إثارةً عندما يتواجه مع عائلة جينينغز، ويكتشف أن جيرانه وأقرب أصدقائه هم عملاء سوفيات، وبالتالي ألدّ أعدائه.

إن أجهزة التجسس وممارساتها، بحد ذاتها، تناقض فكرة مجتمع يحكمه نظام تخضع فيه أفعال الحكومة كلها لمراقبة منهجية من البرلمان والصحافة والأحزاب السياسية؛ لأن هذه الأجهزة لا تعمل إلا في الخفاء، وأنشطتها التي تهدف إلى الحصول على معلومات سرية أو إلى إلحاق الأذى بالأعداء، تقوم على الخداع والتزوير والتعذيب والاغتيال، وكل ذلك يتنافى مع الشرعية ونظام الحريات العامة. رغم ذلك، فإن الواقع فرض وجود أجهزة المخابرات في جميع البلدان الديمقراطية، وفي بعضها تحاول الدولة التحكُّم بالأنشطة السرية التي تقوم بها هذه الأجهزة، وتعاقب الذين ينتهكون القانون ويرتكبون التجاوزات. لكن إخضاع أجهزة الاستخبارات لرقابة شديدة يحدّ من فاعليتها أو يقضي عليها.

أقصى ما يمكن أن تقوم به الأنظمة الديمقراطية هي محاولة توجيه أنشطة مكافحة التجسس نحو الطرق القانونية لتعطيل مفاعيل أجهزة الخصوم أو اختراقها. لكن إذا فشلت في هذه المحاولة، فستجد نفسها مضطرة لإطلاق يد أجهزة المخابرات، ومدّها بالموارد التي تحتاج إليها من غير رادع قانوني، الأمر الذي يؤدي إلى فساد النظام الديمقراطي ويحوِّله إلى مجرد واجهة مزيفة... أو إلى مادة سينمائية.

أودّ في الختام التنويه بالحرية الاستثنائية التي يتمتع بها المؤلفون والمخرجون السينمائيون الأميركيون لتأليف كتبهم أو تصوير أفلامهم. صحيح أن «الأشرار» في مسلسل «الأميركيون» هم الجواسيس السوفيات، لكن الصورة الملطّفة التي يوحي بها المسلسل عن مكتب التحقيقات الفيدرالي ليست تعبيراً صادقاً عن سلوك هذا الجهاز، بقدر ما هي انعكاس لسلوك شخص نزيه مثل ستان بيمان، وهذا سبب ضعيف جداً وعابر.