استضافت العاصمة السعودية الرياض الاجتماع الأول للتحالف العالمي لحل الدولتين، الذي انتهى مؤخراً بحضور دبلوماسيين ومبعوثين من أكثر من 90 دولة إلى جانب منظمات إقليمية ودولية. على مدار يومين، تركزت النقاشات المكثفة على وضع جدول زمني واضح ومحدد لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وإنهاء الاحتلال، مع طرح خطوات عملية لدعم الجهود الأممية ومساعي السلام. هذا التحرك الاستراتيجي يعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي بعد سنوات من التراجع، ويؤكد التزام السعودية الراسخ بدعم الحقوق الفلسطينية والسعي لتحقيق حل عادل وشامل يضمن السلام والاستقرار في المنطقة.
فالقضية الفلسطينية كانت ولا تزال محور اهتمام السعودية وركيزة أساسية في سياستها الخارجية، التي تتبنى دعماً ثابتاً وشاملاً لهذه القضية منذ عقود. على مدى السنوات، كانت المملكة في مقدمة الداعمين سياسياً ودبلوماسياً للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، مقدمة مبادرات مهمة وجريئة للسلام، بدءاً من مبادرة الملك فهد للسلام في الثمانينات التي شكلت نقطة تحول في مسار السياسة العربية تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وصولاً لمبادرة السلام العربية عام 2002 التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز، والتي حظيت بتأييد واسع في القمة العربية ببيروت، ومثلت رؤية شاملة للسلام وضعت إطاراً لتسوية سياسية تنهي عقوداً من الصراع.
إلى جانب دعمها السياسي الراسخ، تعد السعودية من أكبر المانحين لفلسطين، حيث قدمت على مدى السنوات الماضية مساعدات مالية كبيرة لتمويل مشاريع تنموية وبنى تحتية، تجاوزت قيمتها 5.3 مليار دولار لدعم الأشقاء في فلسطين، وذلك بحسب البيانات الرسمية. ولم يقتصر الدعم على ذلك، فقد ساهمت المملكة بشكل مستمر في دعم «الأونروا» ومشاريع الإغاثة الإنسانية لضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في ظل الظروف الصعبة. وقد تعهد مركز الملك سلمان للإغاثة بتقديم 40 مليون دولار لدعم الوكالة، بالإضافة إلى مساهمات سابقة شملت مليوني دولار في أكتوبر (تشرين الأول) و15 مليون دولار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وهذا الالتزام هو ما جعل المملكة تحرص على استضافة «الأونروا» في الاجتماع الأول للتحالف العالمي لحل الدولتين، تأكيداً على التزامها بدعم الجهود الدولية الرامية إلى تحقيق الاستقرار للشعب الفلسطيني. هذا الدعم، سواء على الصعيد السياسي أو المالي، يجسد موقف السعودية التاريخي في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه، عبر دعم فعلي ومستمر يترجم إلى مشاريع ومساعدات ملموسة.
إن توظيف المملكة ثقلها السياسي اليوم لإنشاء هذا التحالف الدولي وعقدها لاجتماعه الأول في الرياض يأتي منسجماً مع التزامها التاريخي بدعم القضية الفلسطينية، ومتوافقاً مع رؤيتها 2030 التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية. في حديث سابق مع صحيفة «الشرق الأوسط» في يونيو (حزيران) 2019، أوضح الأمير محمد بن سلمان أن رؤية المملكة في التعامل مع قضايا المنطقة تقوم على مبدأي الاستقرار السياسي والأمني والتنمية الاقتصادية، مشيراً إلى أن «أولويتنا هي مصالحنا الوطنية وتحقيق تطلعات شعبنا من خلال أهداف رؤية 2030». وهذا يتطلب بيئة مستقرة ومحفزة داخل المملكة وفي المنطقة، لذا ستجد أن دور المملكة، سواء في منطقة الخليج أو في شمال أفريقيا أو في منطقة القرن الأفريقي وغيرها، هو دور داعم للاستقرار والسلام، وهو النهج الذي سارت عليه المملكة منذ تأسيسها الساعي دوماً لنبذ التفرقة والطائفية والتطرف والحفاظ على وحدة واستقرار المنطقة والسلم الدولي. كما أكد أهمية التنمية الاقتصادية بقوله: «لا نريد لشعوبنا أن تكون رهينة نزاعات آيديولوجية تستهلك مواردها وتبدد مقدراتها... فعند النظر إلى المنطقة العربية، نجد أن هناك إجماعاً بين معظم دولنا على أولوية توفير العيش الكريم للمواطن وضمان أمن واستقرار الأوطان». ومن ثمّ فإن إقامة دولة فلسطينية وحل الصراع سوف يسهمان بلا شك في تهدئة المنطقة وتعزيز الاستقرار وفتح المجال للتعاون الاقتصادي، بما يخدم مصالح شعوب المنطقة بأسرها. وهذا يأتي تأكيداً على أن رؤية المملكة 2030 لا تسعى فقط لتحقيق إصلاحات داخلية، بل تشمل دوراً ريادياً للمملكة في دعم قضايا المنطقة وتعزيز التعاون الدولي لتحقيق الأمن والتنمية المستدامة.
لا شك أن نجاح التحالف والوصول إلى حل لإحدى أقدم القضايا في المنطقة يتطلبان التزاماً دولياً صادقاً وإرادة سياسية حقيقية لتجاوز العقبات العديدة، بما في ذلك الاستقطابات السياسية المستمرة وتأثير الأطراف التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، إضافة إلى تحديات الثقة بين الأطراف المتنازعة. المملكة تعمل بجد لتحقيق ذلك من خلال تحالفات قوية ودبلوماسية نشطة تجمع الأطراف المتنازعة حول طاولة الحوار، مع التركيز على خطوات عملية وقابلة للتنفيذ تُترجم إلى واقع ملموس. إن نجاح هذا التحالف في تخطي هذه العقبات لن يسهم فقط في تعزيز فرص تحقيق حل الدولتين، بل سيؤسس لنموذج دبلوماسي ملهم وفعال يمكن تطبيقه في معالجة أزمات أخرى في المنطقة، مما يعزز من استقرارها ويفتح آفاقاً جديدة للتعاون، والسلام المستدام.