مارك شامبيون
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

«بريطانيا العالمية» أكبر بكثير من قدرات وزارة الدفاع

استمع إلى المقالة

عام 2005، وفي وقت كان لا يزال في صحراء المعارضة السياسية، رسم وزير الدفاع بحكومة الظّل في حزب المحافظين، نيكولاس سوامز، حفيد ونستون تشرشل، صورة قاتمة لجميع السبل التي كانت حكومة حزب العمال البريطانية تخذل بها القوات المسلحة التي سادت العالم ذات يوم، ما جعلها تعاني من نقص في العدد والعتاد، في وقت تتحمل أعباء مفرطة.

ومع كل الحديث المبالغ فيه عن «بريطانيا العالمية» منذ استعادة المحافظين زمام الحكم قبل 14 عاماً، فإن القوات المسلحة البريطانية تبدو اليوم في حال أسوأ مما كانت عليها عندما أطلق سوامز حكمه اللاذع، في وقت تواجه بيئة أمنية أشد خطورة. في الواقع، قد يكون ملف الدفاع الأكثر سُمّية من بين الكثير من الكؤوس السامة التي تركتها حكومة ريشي سوناك لحكومة العمال.

اليوم، تستمر عملية تقليص حجم الجيش البريطاني، وعند مستوى 73190 فرداً مدرباً بدوام كامل اعتباراً من يناير (كانون الثاني)، يقف الجيش الآن عند نقطة تقل عن أدنى مستوى له عند 90.000 بعد قرار فض التعبئة في أعقاب معركة واترلو. في الواقع، هذا أسوأ مما يبدو عليه. عام 1815، بلغ عدد السكان الذين كان يجري تجنيد المجندين من بينهم نحو 10 ملايين، مقارنة بـ67 مليوناً اليوم. وتجد البحرية البريطانية نفسها مضطرة إلى التخلص من بعض سفنها؛ بسبب نقص الأفراد اللازمين للعمل عليها، في حين تضيف الصين ما يعادل أسطول بريطانيا بالكامل إلى أسطولها كل عامين إلى ثلاثة أعوام. وفي الوقت نفسه، تمتلك القوات الجوية الملكية البريطانية عدد طائرات مقاتلة أقل من تلك الموجودة لدى فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا.

وتعد هذه أنباءً سيئة للولايات المتحدة، وبالفعل أعرب جنرال واحد على الأقل عن قلقه بصوت عالٍ من أن الحليف الأكثر موثوقية لدى أميركا لم يعد لديه جيش على أعلى مستوى. وفي أوروبا، هناك مخاوف من أن المملكة المتحدة لم تعد قادرة على إنتاج الفرقة الحربية الكاملة التي تتوقعها منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) حال اندلاع حرب كبرى. ويبدو هذا وضعاً أسوأ للمملكة المتحدة نفسها، وهي جزيرة ذات مجموعة واسعة من البنى التحتية الضعيفة، بما في ذلك الكابلات البحرية ومزارع الرياح البحرية.

ولا تعتبر القوة البشرية المشكلة الوحيدة؛ فقد واجهت المملكة المتحدة مشكلات أكثر من معظم الدول الأخرى مع التأخير والإفراط في الإنفاق على عقود الدفاع. ووفقاً لـ«معهد الخدمات المتحدة الملكي»، فإن مخزونات قذائف المدفعية ضئيلة للغاية، لدرجة أنها قد تلبي معدلات إطلاق النار في أوكرانيا لبضعة أيام فقط. المؤكد أن الإنتاج يتزايد، لكن هناك ما يبدو بمثابة جبل ضخم يجب صعوده في هذا الصدد، وليس هناك وقت كافٍ لإنجاز ذلك. وبنسبة 2.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، تتقدم المملكة المتحدة على الدول الأوروبية فيما يخص الوفاء بالتزامات الإنفاق الدفاعي لحلف «الناتو». ومع ذلك، فإنه إذا استبعدنا تكلفة الحفاظ على الردع النووي للمملكة المتحدة، سنجد هذه النسبة أقل من هدف الـ2 في المائة.

بطبيعة الحال، وكما الحال في كل دولة أخرى عضو في حلف «الناتو»، بما في ذلك الولايات المتحدة، بدأ تقليص حجم القوة العسكرية البريطانية مع نهاية الحرب الباردة، قبل وقت طويل من قيادة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون للمحافظين نحو السلطة عام 2010. إلا أن إجراءات تقليص برامج الأفراد والمعدات استمرت منذ ذلك الحين. كما أن جهود المملكة المتحدة للتحرك عكس مسار تراجع الإنفاق الدفاعي منذ عام 2014 جاءت أضعف مما هي عليه بأي بلد آخر. وبحسب تقديرات «معهد الخدمات المتحدة الملكي»، تقبع المملكة المتحدة قرب قاع قائمة الدول الأعضاء في «الناتو» من حيث الزيادات الحقيقية في الإنفاق الدفاعي؛ فقد سجلت ارتفاعاً بنسبة 20 في المائة من عام 2014 حتى عام 2023، مقارنة بمتوسط 54 في المائة لأعضاء الحلف الأوروبيين ككل.

ورغم ما سبق، فمن الواضح أن المملكة المتحدة تظل أكثر استعداداً عن معظم أعضاء «الناتو» لنشر قواتها العسكرية. في الوقت الحاضر، يشارك الجيش بقوة قوامها 900 جندي، تقود قوة الاستجابة التابعة لـ«الناتو» داخل دول البلطيق، في حين تعمل البحرية والقوات الجوية جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية في البحر الأحمر، لحماية ممرات الشحن التجارية من الصواريخ الحوثية التي تنطلق من اليمن.

ومع ذلك، ربما تكون الفجوة بين طموحات الحكومة والقدرات العسكرية للبلاد أكبر الآن عن أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية.

الحقيقة أن المملكة المتحدة لطالما كانت أكبر من قدراتها بمجال الدفاع، ولطالما أدمنت السعي وراء طموحات تفوق قدراتها على المسرح العالمي. ويتلخص رد الفعل المنطقي في تقليص الطموحات الجيوسياسية لهذه الدولة متوسطة الحجم إلى مستوى تستطيع تحمله، ولكن هذا لم يعد خياراً حقيقياً الآن. في الوقت ذاته، تبدو الولايات المتحدة منهكة للغاية، وتسير في طريق الانعزالية، في وقت تواجه روسيا مشكلة خاصة مع المملكة المتحدة بسبب دعمها الشديد لأوكرانيا. لذا، فإن الخيار الأكثر وضوحاً لتقليص النفقات ــ التخلي عن الترسانة النووية البريطانية الباهظة ــ سيكون هو الآخر قراراً غير حكيم. في الواقع، تحتاج بريطانيا وأوروبا إلى الردع البريطاني المتحرك الذي يصعب تعطيله، المعتمد على الغواصات، أكثر من أي وقت مضى.

ما تحتاجه البلاد اليوم هو إجراء تقييم أكثر تواضعاً لكيفية إنفاق المملكة المتحدة لميزانيتها الدفاعية. على سبيل المثال، جرى تصميم مشروع مركبة «أجاكس» المدرعة بقيمة 5.5 مليار جنيه إسترليني (7 مليارات دولار) لإنتاج أسطول أوليّ من 589 منصة للجيش البريطاني، لكنه تأخر الآن ست سنوات؛ بسبب المواصفات الكثيرة التي طلبتها وزارة الدفاع، والمشكلات المزمنة مع مستويات الاهتزاز الشديدة التي أضرت بالطواقم. وجاءت مراجعة مكتب التدقيق الوطني لخطة إنفاق المعدات لوزارة الدفاع للفترة 2023-2033 لاذعة، وأعلنت أنها تجاوزت الحد الممكن من الإنفاق بمقدار 16.9 مليار جنيه إسترليني.

بوجه عام، هناك الكثير من الخيارات متاحة أمام وزير الدفاع الجديد لإنفاق ميزانية المملكة المتحدة التي لا تزال كبيرة، وتقدر بـ57 مليار جنيه إسترليني، بشكل أكثر فاعلية، لكنه أمر يتطلب القليل من التواضع: إنهاء طلاء الذهب للتصاميم الجديدة مثل «أجاكس»، أو شراء المزيد من المعدات الجاهزة أو تصنيعها بالتعاون مع آخرين، أو الاستعانة بمشاريع مشتركة في بلدان تتسم بتكاليف تصنيع أقل، بما في ذلك أوكرانيا (حيث أسست شركة «بي أيه إي سيستمز» وجوداً لها العام الماضي)، أو تركيا (التي تتفاوض حالياً على اتفاقية تجارة حرة مع المملكة المتحدة، والتي تبدو ملائمة باعتبارها مزوداً لخدمات التصميم والإدارة بمجال الدفاع).

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»