ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

مشهد صادم في الأولمبياد: «المسيح» الأزرق!

استمع إلى المقالة

أكثر الردود على المشاهد الصادمة في افتتاح أولمبياد باريس تقول إن هذا دليل على انهيار الغرب. وهذا أيضاً ما قاله رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان. ولكن إذا كان ذلك صحيحاً لماذا ظهرت اعتراضات كثيرة وانتقادات من الفرنسيين أنفسهم من المعتدلين والعوائل وآلاف التغريدات، خصوصاً من اليمين الفرنسي الذين وصفوا ما حدث بالمقزز والمهين. أما بالنسبة لرئيس وزراء المجر، فإن دافعه واضح. الخلاف السياسي مع الأوروبيين حول الحرب مع روسيا، حيث رأى ذلك فرصة مواتية لتلطيخ صورتهم بالوحل.

ولكن إذا ما ظهرت المشاهد مستفزة للبعض، إلا أننا بتنا نعرف هذه الظاهرة التي سمّاها الملياردير إيلون ماسك الفيروس، وتعهد بالقضاء عليها. وحديث ماسك عن خسارة ابنه بعد تحوله الجنسي كان محزناً ومؤثراً، وهو يتذكر كيف خُدع ووقّع على أوراق كانت بمثابة شهادة وفاة لابنه.

إلا أن موقف ماسك والمعارضين لمشاهد الأولمبياد يرد على من يقول إن هذه تعكس قيم الغرب المنحلة، بل على العكس. في الواقع نحن نرى تحالفاً أكبر للمعتدلين العقلانيين الذين يعارضون هذه التوجهات الموتورة من تعدد الأجناس، ومشاركة الرجال مفتولي العضلات في المسابقات النسائية والدخول في دورات مياه النساء. إلى قضايا أكبر تتعلق بالتعليم وتعريف الذات. حالة أشبه بالجنون والذهان تجعل شخصاً يستطيع أن يصنف نفسه كما يريد، بأنه رجل أو امرأة وما بينهما طيف واسع من الهويات الجنسية السائلة أو حتى قطة! (كما ادعت فتاة تقول إنها ولدت في الجسد الخطأ).

هذا الفيروس الذي تحدث عنه ماسك لا يعكس الثقافة الغربية، ولكنه مظهر من مظاهرها. وفي فرنسا تحديداً بسبب الثورات ضد قمع الكنيسة تم تجاوز كل الحدود، وفي الدستور الفرنسي تعبير صريح عن الحرية الفردية في التعبير والإيمان والهرطقة ولا يمكن مسه. هذا مفهوم، ولكن هذا ليس الوجه الوحيد، وهو ما أغضب الكثيرين الذين عدوا ما حصل في الأولمبياد معبراً عن الأمة الفرنسية كلها.

ولكن يجب ألا ننسى أنه في التاريخ الفرنسي بزغ كبار الفلاسفة من فولتير وجان جاك روسو وديكارت وغيرهم. حطموا جمود الأصوليين وأعلوا قيمة العقل، ولكنهم أيضاً كانوا مؤمنين ويجمعون بين العقل والدين الأخلاقي الروحاني. من أقلامهم الجريئة انبثق الفكر المستنير واستمرت إشعاعاته على البشرية حتى هذا اليوم. ومعروفة كلمة فولتير المعبرة حينما حضرته المنية، حيث قال على سرير الموت جملته المعبرة: «أعبد الله وأكره الخرافات وأحب أصدقائي ولا أكره أعدائي».

أحفاد هذا الفكر العقلاني الإنساني المستنير هم جموع الفرنسيين المعترضين على ما حدث في الافتتاح مع إيمانهم بحرية النقد والتعبير، إلا أنه لا يعكس روح الأمة وشخصيتها وتاريخها. ولكن ربما يعكس مرحلة تفكير ما بعد الحداثة، حيث لا حرمة ولا قداسة لشيء. ونرى الفكر نفسه في الولايات المتحدة أو الصراع نفسه تقريباً، بين المحافظين على التصور الأخلاقي الروحاني الفلسفي للدين وبعضهم لا يؤمن به، ولكن يفهمونه بوصفه ظاهرة سياسية واجتماعية، وبين آخرين يرون أن كل التقاليد القديمة في الزواج والجنس والجندر والعائلة والإيمان من مخلفات الماضي. يجب أن تحطم وتُبنى من جديد. قطيعة تامة مع الماضي الذي يجيز السخرية والتهكم منه. ولو لاحظنا أن سخونة الصراع السياسي في الانتخابات الحالية بين نائب الرئيس الأميركي كاملا هاريس والرئيس السابق دونالد ترمب تشتعل حول الأفكار الثقافية الخلافية وليس فقط عن الهجرة والاقتصاد.

في الفوضى التي يعيش فيها عالمنا الخيار الأفضل، بتقديري، هو خيار العقلانيين المعتدلين في الغرب والشرق. وهم المؤمنون بقيمة الدين العميق وفهمه فلسفياً وإنسانياً، وقيمة الحياة، والسعادة، والأمل. وقد انعكست بعض المشاهد في افتتاح الأولمبياد بشكل جمالي وراقٍ. لماذا هذا الخيار الأفضل؟ لأن الناس يحتاجون للبعد الروحاني، ويرتبطون بالعالم الماورائي، ولم تستطع أي حركة أن تقضي على هذا الجانب؛ لأنها لا تجيب عن الأسئلة الكبرى. جزء من سعادة الإنسان في الماديات، ولكن أيضاً في الروحانيات. الإنسان كائن مفكر ومتخيل ويعيش بذهنه في عوالم أخرى طوال الوقت. لا يمكن بتر هذا الجانب من شخصيته. ولهذا تستعيد الأديان والروحانيات زخمها كلما انحسرت. وفي عالمنا الحديث يشعر كثيرون بالتوحش والإحباط والكآبة وبأنهم تروس في ماكينة لا تعرف التوقف، ويبحثون عن يد روحانية حانية تكسر عزلتهم، وتبعث فيهم الطمأنينة والأمل. ولكن ما فعل الفلاسفة هو أنهم أخذوا من الأديان جوهرها الذي يبث السعادة والطمأنينة في قلب الإنسان، وبالوقت ذاته لا يتعارض مع الحياة المعاصرة ولا العلوم الحديثة.

وهي طريقة تفكير المعترضين الفرنسيين وماسك والجمهوريين في أميركا وشريحة واسعة في الغرب. يجمعهم هذا التفكير ويعترضون على مقولة انهيار المُثل والأخلاق في الغرب. ولكن لماذا تكرر هذه المقولة؟ لهدف ثقافي وسياسي، وهو القول بأن الغرب الذي يدّعي التسامح، ويقدس العقل وأنتج المدنية منهار فلا يمكن التعلم منه. ولا يمكن الاقتداء بالأمم المنهارة. حيلة من الحيل الكثيرة لوضع قطرات السم في أكواب الماء التي يتجرعها اليافعون.

ولكن الملاحظ، والمفارقة، أن جماعات الإسلام السياسي في فرنسا لم ترفع أصواتها ولم تغضب هذه المرة، رغم أن قادتها يحرضون على دولنا المعتدلة لأنها فقط تسعى لتجديد الفكر الديني. السبب بسيط: المصلحة السياسية فوق كل شيء. حلفاؤهم من اليسار هم المؤيدون لهذه الاحتفالات، وأعداؤهم من اليمين هم الغاضبون منها. ولكن بالنسبة إليهم إذا خيرتهم بين العقيدة والمصلحة السياسية، أيهما يتفوق؟ الجواب معروف، السلطة والمصلحة أولى حتى لو جسّد شخصية المسيح مثلي الجنس، لطخ جسده العاري بالأصباغ الزرقاء!