إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

انتخابات بريطانيا... حقائق خلف الأرقام

استمع إلى المقالة

بفضل تطور علم الإحصاء واستطلاعات الرأي، تحقق ما كان متوقعاً، وانتزع حزب العمال البريطاني، بالأمس، انتصاراً انتخابياً ضخماً أنهى 14 سنة متتالية من حكم حزب المحافظين.

منذ بعض الوقت، ما كانت نتيجة الانتخابات المبكّرة التي دعا إليها ريشي سوناك، رئيس الحكومة المودّعة، موضع شك. بل ثمّة من يقول إن تعجّل سوناك إلى إجرائها سببه إدراكه عبثية المراوحة، والهروب إلى الأمام، وانتظار فرَجٍ لن يأتي، بينما تتزايد مزايدات ديماغوجيي حزب الإصلاح الانعزالي، و«ترتيب» القيادة المعتدلة الجديدة لحزب العمال شروط تعايشها مع مؤسسة السلطة و«الدولة العميقة» بعد طيّها صفحة القيادة الراديكالية السابقة.

لقد كان سوناك يشعر في قرارة نفسه أنه ما عاد لحزبه أن يقدّمه باستثناء مزيد من الرشاوى الضريبية العبثية والصراعات الداخلية على زعامة هشّة تعاقب عليها 4 رؤساء حكومة خلال 5 سنوات.

ووفق منطق الأمور، في بلاد ذات تقاليد راسخة كبريطانيا، أدرك الرجل أن «الدولة العميقة» ومؤسّساتها لم تعد تراهن على حزبه المنهك، بل ترحب بدماء جديدة تستطيع خدمة مصالحها لفترة أطول وبتفويض شعبي أقوى. ولعلَّ أوضح دليل على ذلك هو التحوّل العلني لمواقف بعض الصحف الشعبية اليمينية إلى تأييد «العمال» خلال الأسابيع الأخيرة.

هذا التطوّر سبق أن عاشه البريطانيون من قبل، عندما تعبوا من طول سنوات «الحقبة الثاتشرية» (18 سنة، منها سنوات جون ميجر) بين 1979 و1997، وترهّل سلطتها، مقابل صعود بديلٍ عمالي َوضع نُصب عينيه أهداف إبعاد الحركيين اليساريين، وإضعاف النقابيين المتشدّدين، والتعايش مع القطاع الخاص والرأسمالية المحلية والعالمية.

وبالفعل، في مطلع مايو (أيار) 1997، قاد توني بلير حزب العمال «الجديد» إلى نصر كاسح حاز فيه على أكثر من 43 في المائة من الأصوات وغالبية 178 مقعداً.

ما حصل، بالأمس، كان «مقارباً»؛ إذ تعب الناس أيضاً من مشاكل السنوات الـ14 الأخيرة، بينما توافَر بديلٌ عمالي معتدل أسقط يسارييه وأبعدهم، وكانت النتيجة هجر المحافظين وإسقاطهم. وهنا تعمّدت استخدام كلمة «مقارباً» لا «مماثلاً»؛ نظراً لوجود فوارق مهمة لعلها توضح حقائق مهمّة خلف الأرقام. ذلك أن ما حصل في الانتخابات الأخيرة كان هزيمة مريرة لحزب المحافظين... أكثر منه انتصاراً لـ«العمال».

صحيح، انتصر «العمال» سياسياً، وسيحكمون خلال السنوات الأربع المقبلة بغالبية مريحة ضخمة أيضاً تبلغ 172 مقعداً. إلا أنهم لم يحصلوا إلا على نسبة 33.7 في المائة من الأصوات. وهذا يعني أن نسبة أصواتهم لم تزدَد عما حصلوا عليه قبل 4 سنوات يوم هزيمتهم المؤلمة تحت زعامة جيريمي كوربن إلا بنسبة 1.9 في المائة... ومع هذا حقّقوا غالبية المقاعد الضخمة المذكورة أعلاه.

في زعمي، يمكن تفسير ذلك بما يلي:

1 – بعد إطاحة «العمال» زعامة كوربن الراديكالية واختيارهم «المعتدل» السير كير ستارمر زعيماً جديداً، ما عاد في حزب العمال ما يُقلق «المؤسسة» و«الدولة العميقة»، بل ارتاحت بعدما تعدّدت خياراتها على المدى البعيد.

2 – كانت العلاقة مع أوروبا دائماً مسألة إشكالية داخل حزب المحافظين. ومع أن الجناح المعتدل المؤيد للانسجام مع أوروبا كسب الجولة مرحلياً عندما انضمت بريطانيا إلى الأسرة الأوروبية مطلع عام 1973؛ فإن «التيار الثاتشري» اليميني داخل الحزب كان دائماً ضد التقارب والتكامل. ومن رحم هذا «التيار»، بالذات، وُلدت جماعة «بريكست». أما المفارقة، فهي أن اليمين المحافظ التقى مصلحياً، بالنسبة لأوروبا، مع تيار يساري متشدّد داخل حزب العمال... كان أيضاً ضد دخول «سوق أوروبية مشتركة» بحجة أنها «تكتل بورجوازي» يضرّ بمصالح الطبقة العاملة.

ولاحقاً، بعد نجاح دُعاة الخروج إثر الاستفتاء عليه عام 2016، وتخوّفهم من استفتاء جديد يلغي مفاعيله، أسّس هؤلاء حزب «الإصلاح»، الذي ضم غلاة المناوئين لأي عودة إلى أوروبا، وأولئك الداعين إلى التصدّي للهجرة وطالبي اللجوء.

3 – تبلوَر حزب «الإصلاح»، من ثم، إلى قوة استقطاب وتجييش مع جنوح نفر من متشدديه إلى تبنّي نهج أقرب إلى العنصرية ومعاداة الأجانب منه إلى الانعزالية المعتدلة. وإبان فترة تخبّط «المحافظين» في أزماتهم الداخلية خلال السنوات الأخيرة، وضرب «العمال» تيارهم اليساري، اشتد عود «الإصلاح» تدريجياً. وحصل في الانتخابات العامة الأخيرة على نسبة 14 في المائة من الأصوات.

4 – في اسكوتلندا، شهد الحزب القومي الاسكوتلندي - بسبب فشل سياساته وتفاقم خلافاته الداخلية - انهياراً موازياً لانهيار حزب المحافظين في إنجلترا وويلز. وهنا أيضاً استفاد حزب العمال، الذي كان دائماً قوة أساسية في اسكوتلندا قبل صعود القوميين خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

وهكذا، نصل إلى خلاصتين:

الأولى، أنه ليس دقيقاً القول إن «بريطانيا اتجهت يساراً بينما تتّجه معظم أوروبا يميناً»؛ فالواقع أن التطرف البريطاني - بتياريه اليميني واليساري - صار قوياً ومنظماً لدرجة أنه ما عاد مضطراً للتستر وراء حزب المحافظين أو حزب العمال. بل إن «الإصلاح» يستنسخ اليوم كل «أدبيات» اليمين المشابه في فرنسا وإيطاليا وألمانيا في هذا المجال.

والثانية، أن النكسة التي مُني بها القوميون الاسكوتلنديون ربما تعني تراجع الدعوات إلى استفتاء جديد على استقلال اسكوتلندا. وللعلم، تقلّص عدد مقاعد القوميين من 48 مقعداً إلى 9 مقاعد فقط، بينما رفع «العمال» عدد مقاعدهم من مقعدين إلى 37 مقعداً!

وبناءً عليه، إن ما أسفرت عنه انتخابات بريطانيا لافت، وربما «يُفرمِل» مرحلياً التسارع نحو هيمنة اليمين المتطرف على غرب أوروبا. لكن وجود بذور الانعزالية المعادية للأجانب يعني أن التغيرات «تحت السطح» قد لا تكون مطمئنة في المستقبل المنظور.