أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

بحثاً عن المثقف

استمع إلى المقالة

لكل مرحلةٍ تحولية كبرى مثقفوها. فالفكر التغييري لا يمتد ويتَّسع داخلَ المجتمعات والشعوب من تلقائه. صحيح أنَّه وليدُ معطياتٍ وظروف تاريخيةٍ عديدة ومتشعبة، تلتقي فيها العواملُ الداخلية والعوامل الخارجية. لكنْ للنخبة المثقفة دورٌ محوري في إحداثه؛ فهي الطليعة الأولى التي تنعكس عليها وتتجسّد فيها معطيات التحول التاريخي، وتنتقل منها شيئاً فشيئاً إلى فئات المجتمع الكلي. والانتقال يمكن أن يحدث أو لا يحدث. وفي أي حال، هو مسار غالباً ما يكون طويلاً وليس بين ليلة وضحاها.

من اللافت أن تكونَ النهضة الأوروبية الكبرى، نهضة النصف الثاني من القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، التي نقلت أوروبا من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، قد بدأت في الفن، فن الرسم والنحت والعمارة، انطلاقاً من فلورنسا، عاصمة توسكانا. كانت شخصية «العلّامة الإنساني» هي الغالبة على النخبة المثقفة التي أطلقت النهضة، وهو العلّامة الملتئمة فيه المعارف الفنية والأدبية والفلسفية والتاريخية، إضافة إلى المعارف الرياضية والهندسية والطبية، والذي يعدّ الإنسان محور التاريخ ومحرّكه. يمكن الإشارة إلى ليوناردو دا فينشي بوصفه نموذجاً «للعلّامة الإنساني»، لكن هناك العشرات من الرسامين والنحاتين والمعماريين والفلاسفة والمفكّرين والأدباء المنضوين، بشكل أو بآخر، ضمن تلك النخبة النهضوية، يضيق المكان بذكرهم، من أيراسم إلى رابليه، ومن مور إلى مونتينيه.

مع ذلك، مضى في حينه أكثر من قرن ونصف قرن على بدء النهضة من دون أن يتسرَّب فكر النخبة المثقفة إلى المجتمع. لا بل في حركة معاكسة، وصل «النظام القديم» بملكيته المطلقة وطبقاته الثلاث (الأكليروس والنبالة والشعب) إلى ذروة نفوذه في القرن السابع عشر، مع الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، أقوى دول العالم في حينه. لكن «نخبة النهضة» ما لبثت أن قادت مع الزمن إلى نخبة أخرى أكثر اهتماماً، إضافة إلى الفلسفة الشاملة، بالتحولات المجتمعية والسياسية والعلمية. إنَّها نخبة «فكر التنوير»، خصوصاً في القرن الثامن عشر، التي قادت نهاية القرن إلى الثورة الفرنسية الكبرى، وإلى سقوط «النظام القديم» برمته.

وتضم تلك النخبة التنويرية هي أيضاً عشرات الوجوه التي يضيق المكان بتعدادها، من كانط إلى مونتيسكيو، ومن هيوم إلى روسو. وفكر التنوير لم يتسرّب هو أيضاً إلى المجتمع الكلّي، بل إلى فئة منه، هي الطبقة البورجوازية الأحدث عهداً، الآتية من الشعب، التي حققت ثراءها ونفوذها من ممارسة التجارة والإقامة في المدن، والتي كان لها الدور الأبرز في قلب «النظام القديم».

والنخبة الماركسية الثورية، التي طليعتها لينين وتروتسكي، هي التي قادت إلى ثورة 1917 البولشيفية، منهية أربعة قرون من النظام القيصري في روسيا. وهي لم تراهن على البورجوازية الروسية، بل على تحالف الفلاحين والعمال والجنود في صنع التحوّل.

بضعة أمثلة لا أكثر على دور النخب المثقفة في «حركة التاريخ».

هل من نخبة مثقفة في مجتمعات المشرق العربي تصنع التحوّل؟

ثمة نخبة ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت وراء النهضة الفكرية والثقافية العربية، بعد قرون طويلة مما عرف بـ«عصر الانحطاط»، ضمّت الكثير من الوجوه الفكرية والأدبية واللغوية والفنية، من بينها البساتنة واليازجيون والشدايقة، وروّاد الأدب المهجري والمقيم، وروّاد التعليم، وروّاد فن الرسم، ورواد الترجمة والصحافة وسواهم. ومع أنَّ تلك النخبة لعبت دوراً بارزاً في نشر الأفكار والمفاهيم والقيم والجماليات الجديدة، وفي الانتقال من الحالة العثمانية إلى الحالة العربية، فهي لم تستطع التسرّب عميقاً إلى مجتمعات المشرق ووضعها على طريق التطور والتحول والحداثة.

واليوم، أمام يقظة الجماعات المتنافرة في أرجاء المنطقة، بين المسلحة منها وغير المسلحة، والتناقضات والتحديات الكبرى التي تواجهها، هل من نخبة ثقافية تغييرية ترسم طريق النهوض وتقود إليه؟ ليس في الواقع الراهن، ولا في الأفق المنظور، ما يشير إلى ذلك. فنخبة المثقفين الكبار، منارة الشعوب ودليلها إلى مستقبلها، غير موجودة.

ومع أنَّ نصفَ القرن الأخير شهد اتساعاً كبيراً في أعداد المتعلمين والمتخصصين في مختلف المجالات، فالأمر لم ينعكس على الثقافة ونوعيتها وهدفيتها الأخلاقية والمجتمعية. فالفارق عميق بين المتخصص الساعي بكل الوسائل إلى الترقي الاجتماعي والاقتصادي الشخصي، والمثقف الملتزم بقوة وتجرد مسألةَ تطوير مجتمعه وشعبه. والفارق عميق أيضاً بين المثقف والمثقف الكبير الذي تتشكّل من أمثاله النخبة الرائية المفقودة.