بعد هزيمة هيلاري كلينتون عام 2016، أدرك معظم الديمقراطيين العقلاء أن لديهم مشكلة. كان الحزب يستنزف الدعم من الطبقة العاملة البيضاء. أكثر من 60 في المائة من الأميركيين الذين تزيد أعمارهم على 25 عاماً ليست لديهم شهادة جامعية مدتها 4 سنوات، ومن الصعب جداً الفوز بالانتخابات الوطنية من دونهم.
لذلك في عام 2020، فعل الديمقراطيون شيئاً معقولاً؛ لأول مرة منذ 36 عاماً، رشحوا مرشحاً رئاسياً لم يكن حاصلاً على شهادة من جامعة هارفارد أو جامعة ييل؛ إذ فاز جو بايدن بالبيت الأبيض، وسعى على الفور إلى أجندة طموحة لدعم الطبقة العاملة.
كانت النتائج الاقتصادية رائعة. خلال فترة ولاية بايدن، خلق الاقتصاد الأميركي 10.8 مليون وظيفة إنتاجية وغير إدارية، بما في ذلك ما يقرب من 800 ألف وظيفة للتصنيع، و774 ألف وظيفة للبناء. ترتفع الأجور بشكل أسرع للأشخاص في الأطراف الدنيا من جدول الأجور مقارنة بالأشخاص في الأطراف الأعلى.
تُقدر دراسة أجراها الاقتصادي روبرت بولين وآخرون أن 61 في المائة من الوظائف التي أنشأها قانون البنية التحتية الذي دافع عنه بايدن لن تتطلب شهادة جامعية، وينطبق الشيء نفسه على 58 في المائة من الوظائف التي أنشأها قانون تخفيض التضخم، و44 في المائة من الوظائف التي أنشأها قانون الرقاقات والعلوم.
وجدت دراسة من «معهد بروكينغز» أنه، منذ عام 2021، وجهت القوانين الجديدة ما يقرب من 82 مليار دولار في استثمارات القطاع الاستراتيجي إلى المقاطعات التي تعاني من ضائقة التوظيف في البلاد. نتيجة للاستثمار الخاص الذي بدأته سياسات بايدن، نحن في منتصف طفرة في التوظيف والتصنيع والإنتاجية في العديد من الأماكن التي أُهملت في السابق، وتستفيد منها فئات العمال التي تضررت بشدة من تراجع التصنيع.
لكن ما الآثار السياسية؟ هل زادت برامج الإنفاق الضخمة هذه من دعم الطبقة العاملة للحزب الديمقراطي؟ هل يستعيد الديمقراطيون عباءتهم بوصفهم حزب الطبقة العاملة؟
الجواب حتى الآن، للأسف: «كلا» المدوية. لم تفعل سياسات بايدن الاقتصادية الكثير لمساعدة الحزب الديمقراطي سياسياً. في واقع الأمر، يستمر الحزب في فقدان دعم الطبقة العاملة. في استطلاع حديث لشبكة «إن بي سي»، قال الناخبون إنهم يثقون بدونالد ترمب أكثر من بايدن للتعامل مع الاقتصاد - بهامش 22 نقطة، وهي أكبر ميزة يتمتع بها أي مرشح بشأن هذه القضية في تاريخ استطلاعات «إن بي سي» التي تعود إلى عام 1992.
يحدث بعض فقدان الدعم بين بعض الدوائر الانتخابية الأكثر ولاء للحزب تاريخياً. قام استطلاع حديث أجرته «مؤسسة غالوب» بقياس عدد الأميركيين الذين ينتمون إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري. على مدى السنوات الثلاث الماضية، تقلص تقدم الديمقراطيين بين الأميركيين السود بمقدار 19 نقطة. وبين ذوي الأصول الإسبانية، تقلصت الصدارة الديمقراطية بمقدار 15 نقطة.
كما أظهر استطلاع «غالوب» أن الفجوة في الشهادات لا تزال تتسع؛ أولئك الذين حصلوا على درجات عليا أصبحوا ديمقراطيين بشكل متزايد، والذين ليست لديهم شهادات جامعية هم جمهوريون بشكل متزايد.
بنى فرانكلين روزفلت أغلبية الصفقة الجديدة باستخدام الحكومة لدعم العمال. حاول بايدن أن يفعل الشيء نفسه. وفي حين أن سياساته نجحت اقتصادياً، فإنها لم تُفلح سياسياً؛ فما الذي يجري؟
الحقيقة أنه على مدى العقود القليلة الماضية، وعبر الديمقراطيات الغربية، كنا في منتصف إعادة تنظيم سياسي مُزلزِل - مع تأرجح الناخبين الأكثر تعليماً إلى اليسار، وتأرجح الناخبين الأقل تعليماً إلى اليمين. تتعلق إعادة التنظيم هذه بالثقافة والهوية أكثر مما تتعلق بالاقتصاد.
يميل الناخبون الحاصلون على تعليم جامعي إلى التجمع في المدن الكبرى، ومباشرة نمط حياة مختلف تماماً عن الناخبين الذين ليست لديهم شهادة جامعية. من المرجح أيضاً أن يركز الناخبون الحاصلون على تعليم جامعي اهتمامهم على القضايا الثقافية، مثل الإجهاض وحقوق المجتمع المثلي، وهم أكثر ليبرالية اجتماعياً من الناخبين غير المتعلمين.
ماثيو غودوين، أستاذ العلوم السياسية الذي يكتب عن فجوة الشهادات في بريطانيا وضع عنوان كتابه الأخير: «القيم والصوت والفضيلة»، يجادل بأنَّ المتعلمين والأقل تعليماً لديهم قيم مختلفة. الأول تقدمي عالمي، في حين أن الأخير تقليدي: الإيمان والأسرة والراية. ويواصل القول إنَّ الأصوات المتعلمة تُغرِق الأصوات الأقل تعليماً بفضل هيمنتها على الجامعات ووسائل الإعلام والفنون والمنظمات غير الربحية والهيئات البيروقراطية. يشعر الناخبون الأقل تعليماً بأنَّهم غير مسموعين وغير مرئيين. كتب غودوين أنه في جميع أنحاء العالم الغربي «العمال وغير الخريجين هم باستمرار الأكثر احتمالاً لتأييد تصريحات مثل: (الحكومة لا تهتم بما يعتقده أناس مثلي)».
أخيراً، يشعر الناخبون الأقل تعليماً بالخضوع للحكم عليهم أخلاقياً لكونهم متخلفين اجتماعياً. وجد تحليل لأكثر من 65 ألف شخص في 36 دولة، أجراه الباحث الهولندي يوكيم فان نورد، أن الأشخاص الذين لا ينتمون إلى النخبة الجديدة لا يجمعهم انعدام الأمن الاقتصادي فحسب، وإنما «مشاعر سوء التقدير أيضاً، أي مدى شعور الناس بأنهم لا يلعبون دوراً ذا مغزى في المجتمع، وأنهم يمتلكون هوية (موصومة) يُنظر إليها بازدراء».
يتحدث الكاتب البريطاني ديفيد غودهارت: «في العقدين الماضيين، يبدو الأمر أحياناً كما لو أن مكنسة كهربائية اجتماعية هائلة قد امتصَّت المكانة من المهن اليدوية، حتى الماهرة منها، وأعادت تخصيصها للمهن المعرفية المتوسطة والعالية، والمراكز الحضرية المزدهرة، والمدن الجامعية».
لصالح البلاد، من الواضح أن بايدن كان محقاً في تركيز سياساته على أولئك الذين تُركوا في الوراء. كنتُ من بين أولئك الذين كانوا يأملون في أن يفسر ناخبو الطبقة العاملة هذه السياسات على أنها علامة على الاحترام والتقدير. لكن الهوة بين الطبقات تتعلق أيضاً بالأخلاق والمكانة والهوية، ولم تلتئم تلك الجراح. والسؤال الحاسم: هل يمكن للديمقراطيين محاولة فعل أي شيء آخر لإبطاء إعادة التنظيم؟
هناك أسباب للتشاؤم. في دراسة أجراها «معهد مانهاتن»، يجادل عالم السياسة، زاك غولدبرغ، بشكل مقنع؛ بأن الطبقة المتعلمة سوف تستمر في إعادة تشكيل الحزب الديمقراطي على صورتها الخاصة. يظهر غولدبرغ أن الديمقراطيين المتعلمين أكثر انخراطاً في السياسة من الديمقراطيين الأقل تعليماً، وهم أكثر ميلاً للتبرُّع لصالح مرشحي الحزب. كما أنهم يتحكمون في وسائل الاتصال.
يلاحظ غولدبرغ مفارقة ناشئة: «من المرجح أن يصبح الحزب الديمقراطي حزب (أغلبية الأقليات) بصورة نسبية قريباً، لكنه لا يزال موجهاً إلى حد كبير وبشكل غير متناسب من قبل البيض الليبراليين الحاصلين على التعليم الجامعي».
إن كان هناك أمل للديمقراطيين؛ فهو موجود في أشخاص مثل سيناتور بنسلفانيا، جون فيترمان، الذي يعمل بجد لتقليل المسافة الاجتماعية بين الديمقراطيين والطبقة العاملة. كما أشار المحلل روي تيكسيرا في مقالته بعنوان «الوطني الليبرالي» على منصة «Substack»، فقد عارض فيترمان العقيدة التقدمية بشأن الهجرة والوقود الأحفوري وإسرائيل. ويُظهر قوته من خلال الميل ضد نخب الحزب. وبالمثل، استعاد الديمقراطي، توم سوزي، مقعده في مجلس نواب لونغ آيلاند من خلال العزف على قضايا، مثل السيطرة على الحدود ومكافحة الجريمة.
* خدمة «نيويورك تايمز»