نظم كرسي تحالف الحضارات الذي أنشئ بتعاون مع تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة والذي لي شرف ترؤسه، منذ أيام بمقر البرلمان المغربي يوماً دراسياً جمع طلبة من أكثر من ثلاثين دولة في القمة الأولى للشباب الأفريقي والأورومتوسطي للجامعة الأورومتوسطية في موضوع: الانفتاح الأورومتوسطي والأطلسي: لنواجه معاً تحديات الغد؛ ونظم هذا اللقاء بموازاة مع القمة الثامنة لرؤساء البرلمانات والدورة الـ17 للجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط؛ وكانت فرصة لهؤلاء الشباب قراءة نداء المستقبل الذي سطروه وطلبوا من رجالات الدول والبرلمانيين الحاضرين تبنيه...
جاءتني فكرة تنظيم هذا اللقاء انطلاقاً من قناعتي أن أفريقيا والفضاء الأورومتوسطي في حاجة إلى هؤلاء الشباب، فهم قادة المستقبل، ولهم من الأفكار والرؤى ما لا توجد عند غيرهم ويجب إسماع صوتهم وإعطاؤهم فرصة الحديث مع ذوي القرار في عالم سماته الأربع: الغموض والتوجس والمجهول واللايقين.
وفاجأ هؤلاء الشباب الحضور عندما تناولوا مواضيع ظن أهل الحل والعقد أنهم وحدهم يملكون مقاليدها؛ فشخصوها وأعطوها حلولاً تعلو ولا يعلى عليها، وهي مجتمعة ثورة في القواعد؛ وإذا بلورت في سياسات عمومية، فستحدث تغييراً في المجالات الاقتصادية والتنموية...
ويكفي أن هؤلاء أعطوا دروساً للحضور في مجال العلاقات الدولية وعلم السياسة عندما أكدوا أن أفريقيا تغيرت، وأنها لا تحتاج إلى من يملي عليها القواعد والأوامر، وإنما تحتاج إلى من يتعاون معها في إطار الندية وفي إطار رابح - رابح...
أعطيت في هذا اللقاء أمثلة انطلاقاً من التجارب الصينية والمغربية؛ فالصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية، كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا اللتين تسعيان إلى تصدير النموذج الغربي، زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح من دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي، بل وأيضاً، نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فدولة الصين مثلاً، ما دامت أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، فقد كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشكلات، موازاة مع نجاح هائل في تحقيق الثورة الاقتصادية وتحقيق الغلبة في الميدان الاقتصادي بناء على قواعد لم تفهمها بعد دول غربية عديدة، كضرورة اليقين بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو»، وإنما في إطار «رابح - رابح».
هذا يفسر سر نجاح الصين، وسر نجاح دول أخرى مثل المغرب الذي استطاع فهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها التحالفات، والنظام العالمي الجديد وقواعد العولمة، فمستقبل العلاقات الدولية لم يعد يكمن حصراً في الشراكة النسبية «شمال - جنوب»، وإنما أيضاً في الآفاق الواعدة والغنية للتعاون «جنوب - جنوب»؛ وكل الاتفاقات الصناعية والتجارية التي تتعدى الألف بين المغرب ودول القارة الأفريقية قائمة على مفهوم جديد للتعاون على أساس شراكة مربحة للجميع، وهذا المنظور هو الذي يطبع أيضاً علاقة المغرب بدول الاتحاد الأوروبي وبالدول العربية.
وأشار الطلبة في هذا الصدد إلى مشروع أنبوب الغاز نيجريا - المغرب بوصفه مشروعاً رائداً سيمر بعدد من البلدان جنوب الصحراء، وهو يدخل في إطار استمرارية الجهود التي تبذلها المملكة من أجل أفريقيا مزدهرة، في إطار مبادرات رائدة توفر إمكانات غير مسبوقة، من شأنها تعزيز الاندماج والتعاون الإقليميين، والتحول الهيكلي لاقتصادات دول المنطقة.
كما ثمنوا المشاريع الأطلسية – الأفريقية؛ لأن ذلك سيعد طريقاً آمنة للإقلاع الاقتصادي المشترك، وتشجيع دينامية التنمية. والاندماج الجهوي مبني على قيم كونية من قبيل التضامن والدعم المتبادل والانفتاح في سبيل تحقيق كل ما تنتظره القارة الأفريقية... كما أن تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي ليعد استراتيجية حكيمة تتوافر على الإمكانات اللازمة من أجل تحرير القدرات الهائلة لشركاء الساحل، وكذا تسريع النمو والتنمية المستدامة والشاملة لاقتصادات المنطقة.
ونادى هؤلاء الشباب بضرورة إحداث مشروع مارشال في القارة الأفريقية في مجال الاستثمار في العامل البشري وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال، وإعطاء نفس جديد لنظام البحث العلمي والتقني في القارة الأفريقية بتعاون مع الفضاء الأورومتوسطي، وهذا سيسمح لا محالة بإحداث قطيعة مع الفقر والإرهاب والهجرة غير النظامية التي لا يمكن إيقافها بأي سياسات أمنية، ولكن فقط من خلال سياسات تنموية رائدة في المنطقة الأورومتوسطية وفي القارة الأفريقية، تحقق العيش الآمن للجميع والرخاء المشترك وتضمن للشباب مستقبلهم.
وبغرض تعبئة وإثارة انتباه مختلف الفاعلين والمتخصصين، تناول هؤلاء الشباب مواضيع؛ منها ارتفاع نسبة الفقر وخاصة في الدول الأفريقية؛ كما تحدثوا عن نماذج التنمية المستدامة والفكر النسقي والتحول المناخي، والاقتصاد الدائري المحلي والاندماج الاقتصادي الجهوي والنقل والاستدامة، والابتكار الأخضر الأفريقي، والأخلاقيات الطاقية، والسيادة الغذائية وغيرها من المواضيع.
قلت في توجيهي لمخرجات هاته القمة وهاته الاجتماعات، إنه إضافة إلى ضرورة إسماع أصوات هؤلاء الشباب، فيجب إشراكهم في ممارسة المسؤوليات. وهذا التوجه هو وسيلة وغاية في آنٍ واحدٍ، فهو وسيلة لأنه يتيح لأفراد المجتمع، بخاصة فئة الشباب، أن يتعرفوا إلى آليات الممارسات في مجال السياسات العمومية، وكيفية المشاركة الفاعلة في المجتمعات، ما يسهم في بناء شخصياتهم وثقافتهم أكثر فأكثر، ويطور أنماط سلوكهم. وهو أيضاً غاية؛ لأن ذلك يعمل على إكساب الشباب عدداً من الاتجاهات الإيجابية، ويعدِّل الاتجاهات السلبية، ويعزز ولاءهم وانتماءهم إلى مجتمعاتهم، ويزيد من قدرتهم على التفكير الموضوعي والتحليل والنقد البنَّاء، وبالتالي مساعدتهم على اكتساب كثير من المهارات والخبرات الجديدة التي تصب في النهاية في خدمة بلدانهم وتطويرها.