دخل إبراهيم على عبد الملك بن مروان، فأمر بجلوسه في صدر المجلس ثم قال له: يا أبا محمد فقد ذُكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحُسن نصيحتك، فلا تَدَعْ في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا نضيع شكر الحجاج فيك.
قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى والتقريب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في القيامة نصيحة أمير المؤمنين. قال: قُلْ... قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث. قال: ولا صديقك الحجاج؟! قال: ولا. فما كان من عبد الملك إلا أن يقول للحجاج: قُمْ، فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هاتِ نصيحتك، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، ولَّيت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما من تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبُعده عن الحق وقربه إلى الباطل، يسومهم الخسف ويطأهم بالعسف، فليت شعري أي جواب أعددته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا سألك الله في عرصات القيامة عن ذلك؟ فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادّخرتها إلى الله تعالى.
فقال عبد الملك: لقد ظن الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم قُمْ. فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودّت الدنيا في وجهي، فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك الحجاج، فدخل فمكث طويلاً فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي، ثم دعاني فقُمْتُ ودخلتُ، فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدْرك.
وتركني وخرج ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين وولّيته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال، وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فَسِرْ معه أينما توجه يولِّكَ خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنّا.
إن تصرف أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وكلامه مع الاثنين، يعد من وجهة نظري قمة الأدب والتشجيع والفهم، فخرج الاثنان وكل واحد منهما رافع رأسه وهو في منتهى الفخر والسرور، وهكذا يجب أن تدار الأمور –أي بالعقل لا بالبهللة.