لم يكن حضور نجوم العالم على تنوّع مجالاتهم إلى السعودية اعتباطياً؛ والهدف منه أبعد مما يظنّ البعض. إنَّه ترسيخ للقوّة والحيوية والأنسنة للأفكار الترفيهية والرياضية والفنية. ومَن يتتبعها من كثب يعرف أنها رُسِمت ضمن سياسات تنموية، ومرسومة بذكاء هائل ضمن «رؤية 2030» التي رسمها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد. إن هذا الحراك الحيوي والإنساني وَضَع السعودية في مكانها الطبيعي، بوصفها دولة راعية للسلام، للتواصل الإنساني، للتفاهم مع الثقافات، للاتصال مع الرياضات والفنون، والأفكار والفلسفات. حضر رونالدو إلى «الدوري السعودي» ضمن مشروع الاستقطاب للنجوم الرياضيين، فكان حديث العالم، ثم جاء نيمار، وبنزيما، وكيسيه، ومحرز، وحضر ميسي مراراً، وكان حضوره مع ميامي في مواجهة فريق الهلال قبل أيام من أحاديث الإعلام الرياضي في أصقاع الأرض كافة، هذه الأيقونات تمثل نماذج صاعدة وفاعلة من أجل تكثيف الصورة الحيّة عن البلد المضيف، بدلاً من التنميط المقصود الذي أريد له أن يُكتَب من قِبَل الغرب والشرق ضد دولنا، خصوصاً بعد تصاعد حدّة خطاب الكراهية، وأحداث العنف، وعمليات الإرهاب الإجرامية.
البعض لا يستوعب أن الفنون، والرياضات، والترفيه لا يُقصد منها فقط مجرد الاستمتاع باللحظة. هذا جزء من المقصود، لكن الهدف الأبرز إظهار طاقة المجتمع السعودي الكبيرة في سبيل الاستمتاع بالحياة، بعد عقودٍ من الضغط النفسي، والاجتماعي، والوعظي، حتى كان الناس يذهبون إلى تسجيلات الموسيقى وهم ملثّمون، كما يقول البعض، وبعض الفنانين كفروا أو أُصدِرَت ضدهم فتاوى بالقتل، أو تم إيذاؤهم نفسياً، كما في المواقف التي رواها الفنان الكبير محمد عبده في حواره التلفزيوني مع الشاعر صالح الشادي، وكذلك الأمر مع فنانين وممثلين، ورياضيين كثر كانت تتم مطاردة الناس من أجل التوبة من أمورٍ مباحة في الفقه الإسلامي، وبعضها محل اختلاف فقهي مكتوب وموجود بأمهات كتب الفقه، كالخلاف على الغناء؛ مَن قرأ ودرس يعرف أن الأمور التي ركزت عليها الخطابات المتطرفة بوصفها خطايا إنما هي موضوعات خلافية مكتوبة وموجودة ومعروفة لمن أراد البحث والتحقق، وليس لمن أراد بيع دماغه لهذا الواعظ أو ذاك.
تمثّل بطولة «موسم الرياض»، وبهجة الجماهير السعودية والعالمية بهذا الحدث أصلاً يُبنى عليه بغية تمتين المشروع الإنساني الذي يؤمن به السعوديون، وقد قالها الأمير محمد بن سلمان؛ إننا لا نبتكر شيئاً جديداً بل نعود إلى ما كنا عليه. إن الرياضة - على سبيل المثال - ليست ترفاً، بل تمثل كرة القدم جزءاً من حياة كبار العلماء والأدباء والفلاسفة في أنحاء العالم، بل إنها سبب تشابكٍ مع مجموعة من الفنون.
في الفصل الثالث من كتابه: «المثقفون وكرة القدم» يكتب أشرف عبد الشافي عن علاقة نجاح ولموع الممثل الأميركي الكبير آل باتشينو، وكيف كان لكرة القدم أثرها في تعبيد طريقه نحو نيل «جائزة الأوسكار» عن فيلمه («عطر امرأة» - Scent of a Woman) 1992 وهو من أعظم الأفلام. يكتب المؤلف: «الكرة كانت مفتاح شهرة جيوفاني أربينو مؤلف رواية (عطر امرأة) التي قدمت لباتشينو دور (الأوسكار). انتظر عشاق النجم آل باتشينو كثيراً قبل أن يُتوَّج على منصة التكريم ويحصل على (جائزة الأوسكار) عام 1992. وصفَّق عشاق الأب الروحي تصفيقاً مدوياً لهذا الحدث، لكن أحداً لم يصفق لصاحبة الفضل الأول في ذلك كله!! إنها كرة القدم... علينا أن نعرف اسم كاتب يدعى جيوفاني أربينو ظل كاتباً مغموراً حتى كتب رواية عن كرة القدم؛ فقد اختار جيوفاني كتابة دراما تدور أحداثها حول (مونديال 1974) بألمانيا، واستغلَّت دار النشر الفكرة، وقامت بعرض الرواية في الملاعب، مع دعاية ضخمة ساهمت في بيع أكثر من نصف مليون نسخة من رواية جيوفاني التي حملت اسم (الأزرق الداكن)، وصنعت تلك الرواية اسم كاتب كبير؛ اسمه جيوفاني، الذي أمتع العالم فيما بعد براويته (عطر امرأة). والحقيقة أن (عطر امرأة) كانت ستظل مجرد رواية على أرفف المكتبات يغلفها التراب والإهمال، لولا المخرج العبقري مارتن بروست الذي تحمس للكاتب وللرواية، وبالطبع ساعدته شهرة جيوفاني التي حققها بكتابه (الأزرق الداكن) في إقناع شركة الإنتاج ليصنع فيلماً أجمع النقاد على أنه من روائع السينما العالمية».
يضيف: «في عام 1992 كان عشاق آل باتشينو على موعد مع السعادة، وهو يحصل على (جائزة الأوسكار - أحسن ممثل) عن دوره في (عطر امرأة)، وهو الدور الذي جسَّد فيه شخصية (كولونيل) خرج من الحرب مصاباً بالعمى، ويُصاب بالإحباط والاكتئاب مع تقدمه في العمر، فيقرر أن يعيش مغامرة المتعة قبل أن ينهي حياته، يقرر أن يرتشف من رحيق العالم آخر قطرة قبل أن يمضى إلى النهاية، ويساعده في القيام بتلك الرحلة شاب جامعي يعيش أزمة هو الآخر، وتمضى الدراما بحثاً عن معنى وهدف للوجود، ويتألق آل باتشينو في تأدية رقصة ناعمة مع تلك المرأة التي لم يستطع مقاومة عطرها، وصفَّق العالم للفيلم وأبطال الفيلم، لكن أحداً لم يصفق لكرة القدم التي كانت سبباً في تقديم كاتب موهوب إلى السينما، وسبباً في حصول ممثل بارع على (الأوسكار)، وفي متعة محبي السينما أيضاً».
الخلاصة أن ما تنتجه الفنون والرياضات مشاريع إنسانية؛ لذلك، في البطولات الرياضية الكبرى، وفي التجمّعات الفنّية، تحضر الروح الإنسانية، والمشترك البشري، تختفي الصراعات، هذه الكرنفالات تخفف من مستويات النزاع الحضاري، والكراهية الدينية، بل والعرقية، إن أي مشروعٍ ترفيهي آخذٌ بالحاضرين نحو الأنسنة، نحو الشراكة الإنسانية والبشرية من أجل التفاهم، بل وربما أسَّس إسهاماً في تعزيز الأواصر بين الحضارات والثقافات والشعوب.