زرت متحف الحضارة وأوقفني شاب في العشرين، وقال يا هذا: أتحداك بسؤالين لهما إجابة واحدة. قلت: وما العجب. كثير من الأسئلة تتماثل في الإجابة. خُذْ مثلاً: ماذا تبيض الدجاجة؟ وأين يكمن فرخ الطير قبل أن يخرج إلى الحياة؟ وما الشيء الذي يخرج منه الديك ولا يُخرجه؟ وعشرات غيرها.
نظر إليَّ الشاب وقال: أنت في متحف الحضارة، فعنك بهذه الأسئلة السخيفة، واسمع سؤاليَّ. قلت: إليَّ. قال: هل لدراسة التاريخ فائدة؟ وقال: هل العقل المتفوق في العلوم أفضل من العقل المتفوق في الدين؟
ثم سَكَتْ، ينتظر منّي إجابة الفزورة. رأيي في الحالتين: نعم، لكنني أمسكت عن الكلام، فلا يمكن أن تكون الإجابة بهذا السخف.
قال الشاب سأحكي لك حكاية. في القرن السادس عشر قرر رجل دين اسمه مارتن لوثر أن يُترجم كتاب المسيحيين المقدس من اللاتينية إلى الألمانية. الأولى يعرفها الخاصة والثانية لغة العامة. بهذا صار المواطن البسيط قادراً على مطالعة دينه بنفسه، وعلى صياغة علاقة فردية بربه، وتشجع على التفكير النقدي والمناقشة. قلت: أعرف. قال: أعرف. لكن أَنْصِت وافْقَه.
المواطن كسر احتكار الكنيسة المركزية للترانيم، وما يصاحبها من تلحين، فأضاف إليها من لحن بيئته، وجعل طريق الموهبة لا يمر حتماً بالكنيسة الأم. فتطورت الموسيقى الكلاسيكية، وأسمعتنا أصواتاً جديدة.
وكان التطور الاقتصادي نابتاً بالفعل بسبب الملاحة وحركة التجارة. لكنه الآن وجد دعماً من قوة الدين المعنوية. مسؤولية الفرد أمام إلهه عن البحث والفهم والاختيار والعاقبة، تُرجِمَت إلى صفات مرادفة في سعيه الدنيوي. ووضعت الأساس لأخلاق الرأسمالية من العمل الجاد والمسؤولية الفردية والربح الفردي. ومهَّدت للثورة الصناعية. وما سار معهما من إنتاج فكري وأدبي.
هذا التسلسل التفاعلي، أي الأفعال العظيمة التي تنبت من خلخلة أو طفرة صغيرة، يشبه الطبيعة. سنعرف ذلك لاحقاً. حين نكتشف آلية التطور البيولوجي، وطبيعة التطور الجيولوجي لطبقات الأرض، وبعدها نكتشف التسلسل التفاعلي للذرة إنْ خلخلنا استقرارها، حتى نصل إلى نظرية تطور الكون كله من تسلسل شبيه ومستمر.
هنا رأيت أن الشاب استطرد وبَعُد عن الفزورة، حاولت أن أُذَكِّره، فمنعني، وقال: «انتظر حتى النهاية».
مارتن لوثر، قال الشاب، لم يكن متفوقاً في العلوم، كان رجل دين يؤمن بما وراء الطبيعة. لكنَّ عقله البشري علَّمه أن البشر ليسوا آلهة. علَّمَه أن قدرتهم على الخلق من عَدَمٍ معدومة، وعلى التغيير محدودة، إلا بالتراكم عبر الزمن. أليس هذا قانون الطبيعة ومنهجها؟
في المقابل، ترى بشراً متفوقين في العلوم، وربما لا يعتقدون في وجود إله سوى الطبيعة. ورغم ذلك لا يتَحَرّون في التغيير الاجتماعي حكمتها، بل يتعلمون عنها ولا يتعلمون منها. والأعجب أنهم يحاولون محاكاة الفعل الإلهي. يريدون التغيير اللحظي الذي يقول للشيء كن فيكون. يريدون أن يخلقوا عالماً جديداً في ستة أيام. يريدون تغييراً راديكالياً من خلال سلطة تَعول البشر وتتكفل بأرزاقهم.
سكَتْ الشاب. انتظرتُ قليلاً وبدأت الكلام متردداً. قلت: لكنك لم تُجب عن السؤالين. قال بل فعلت. قلت: لم أفهم، هل الإجابة نعم لكليهما أم لا؟ قال: بل أجبت بالأمثلة. قلت: أريد إجابة واضحة قاطعة. قال: هكذا علّموك في المدرسة. لذلك تحفظ التاريخ ولا تفهمه. تزور متحف الحضارة وتخرج منه بلا تجربة. حسناً، قال متضرراً، نتعلم من التاريخ تقدير قيمة الفعل الصغير، إيجاباً أو سلباً، لأنه متراكم كطفرة وانشطاري كذَرَّة. ونتعلم أن الفقه أهم من الحفظ. هكذا تكون دراسة التاريخ نافعة.
ومن التاريخ أيضاً نتعلم إجابة السؤال الثاني. لا تغتر بالشعار المرفوع، ولا بالشهادة الجامعية العلمية لصاحبه. بل انظر إلى الفلسفة الكامنة خلفه. هل توافق الطبيعة أم لا. الطبيعة كما هي، كما نتعلمها بالحواس والملاحظة، لا كما تقدمها الآيديولوجيا. فكم من عالم يتناقض عقله المعرفي مع عقله المجتمعي. كم من طبيب ومهندس وكيميائي بارع في مهنته وفاشل في فهم أحوال البشر. ولهذا أسباب.
أولها التعليم بالتلقين. يجعل عقولنا تدرس العلم كمعلومة للحفظ، بدل أن تتلقاه كفلسفة ومفهوم.
وثانيها الخوف من التفكير. جزء من هذا نابع من التربية الدينية وذمِّها للشك، وجزء منه نابع من السلطة الزمنية التي تتصرف كالآلهة، أو تُمرر الأكاذيب بقوة الاحتكار والقهر.
وثالثها سلطة الآيديولوجيا على العقل. تجعل جهاز التفكير البشري غُرفاً متجاورة، لا ممرات بينها. هذه الغرفة تفكر علمياً، لتجعلك أنت طبيباً ناجحاً رابحاً. والغرفة المجاورة تفكر خيالياً، ومنها تُصَدِّر أفكاراً للمجتمع. فلا يسمح المرء للجهل أن يمس ماله، ولا للعلم أن يفيد غيره. والنتيجة مجتمع هائل الفجوة. تِينُه يَحْبِس عَوَارِفَه، فلا يبينُ له في غيرِه أثر.
وهنا وصل بنا ممشانا إلى جناح تاريخ المدن. وهالني ما رأيت من حال لندن وباريس قبل قرون قليلة. نظر إليَّ الشاب وقال: الناس في بلادنا يعجبهم مرأى تلك المدن الآن، ويريدون استيراد النسخة النهائية دون عناء المشوار.
سألته: من أين نبدأ إذن إن أردنا التغيير؟
قال: إن أردنا فلا بد أن تكون البداية من الإرادة، وهي تختلف عن مجرد الرغبة. بعدها يمضي التغيير في مسارين متلازمين؛ أحدهما تغيير الذهنية، وسبيلها ربط العلوم بالحكمة الطبيعية، وتعزيز التفكير النقدي، والتشديد على الكُلِّيَة الثقافية، على ارتباط التطور العلمي بالفلسفي بالموسيقي بالأخلاقي، وقبل ذلك وبعده بالتطور الاقتصادي. وهو ما يقودنا إلى المسار الآخر والأهم؛ لا بد من تغير فلسفة إدارة النشاط الإنتاجي، من المركزية إلى المسؤولية الفردية والحرية الاقتصادية، أو ما نسميها السوق الحرة.
هذه دائرة مترابطة؛ التنافسية تعلِّم المسؤولية، والمسؤولية تغيِّر الذهنية والأخلاق. أما الاقتصاد المركزي فيعلِّم التواكل، ويزرع الكسل ويحصد الفشل. في الطبيعة لا يَتَّكِل إلا الرُضَّع.