د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

مهارات بوتين وتراجعات بايدن

استمع إلى المقالة

على الرغم من الجهود الجبارة التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغير الأوروبيين في محاصرة روسيا، ممثلة في شخص رئيسها بوتين، فإنَّ الأخير يمكنه القول صوتاً وحركة بأنَّ قدرتَه على المناورة والالتفاف على العقوبات الأميركية هي قدرات كبيرة للغاية، الأكثر من ذلك أنَّ لديه القدرة والحافزية على أن يناوئ الولايات المتحدة في أكثر من منطقة وبقعة في العالم، لم تعد ترى في واشنطن السندَ الكبيرَ والموثوق، أو الصديق الذي يبالي بالمصالح المشتركة؛ بل ويتجاهل إلى حد بعيد أسس الشراكة التي تم اعتمادها سابقاً، وبُنيت على مدى سنوات طويلة.

بهذا المعنى امتزجت القدرات الشخصية للرئيس بوتين، والتراجعات الكبرى للولايات المتحدة عهد الرئيس بايدن، ووفرت لروسيا ولرئيسها المجال الأرحبَ للحركة والمناورة وتحقيق مكاسب مهمة، معنوية ومادية في آن واحد، على الرغم من العقوبات القاسية التي لم تواجه أحداً من قبل، مثل تلك التي طبقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا في أقل من عامين، بعد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي تجاوزت في شمولها ما تم تطبيقه على إيران طوال ما يقرب من أربعة عقود.

بالطبع هنا استطراد يجب توضيحه، ففارق الصمود والقدرة على الاحتواء والإفلات من النتائج المدمرة للعقوبات بين روسيا وإيران، يعود إلى فارق الإمكانات الاقتصادية والموارد الطبيعية والصناعية والمهارات البشرية وتشعب العلاقات الدولية، فضلاً عن الدور الخاص الذي تتميز به موسكو ممثلاً في عضوية مجلس الأمن الدولي، وتمتعها بحق النقض، فضلاً عن القدرة على المبادرة في مجالات بعينها، كإنشاء وتعزيز بعض المنظمات الإقليمية التي توفر لموسكو دوراً ريادياً، أو مؤثراً بالتنسيق مع أصدقاء وشركاء أساسيين مثل الصين في مجالات الاقتصاد، والمملكة العربية السعودية في مجال النفط.

لكن مع الإقرار أيضاً بأنَّ مهارات الإفلات من بعض تبعات العقوبات لكلا البلدين، لا تعني غياب تلك التبعات، أو زوالها تماماً، فكثير من تبعات تلك العقوبات موجود ومؤثر، بما يمكن وصفه بالحد الأدنى، وليس في حدوده القصوى التي تم تخطيط العقوبات من أجل تحقيقها.

هذه المكانة لروسيا، عالمياً وإقليمياً، وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها، سواء في ميدان المعارك الأوكرانية، أو في ميدان الاقتصاد الروسي، أو في نطاق التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة، ما زالت -أي المكانة- تمثل الأساس الذي أضفى أهمية وتأثيراً لزيارة الرئيس بوتين الخاطفة لكل من العاصمتين العربيتين المهمتين في نطاقهما الإقليمي والعالمي؛ أبوظبي والرياض. فمن جانبٍ جسَّدت القدرة على الحركة عالمياً لمناقشة كثير من القضايا التي تهم البلدان الثلاثة ثنائياً، كالتعاون في المجالات التجارية، والاستثمارات المشتركة، والصناعات الدفاعية، والطاقة المتجددة، وغيرها من المجالات الحيوية.

كما تهم الإقليم كله، كما هي الحال في التنسيق لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والشعب الفلسطيني بأسره، والمدعوم أميركياً بما يفوق الدعم الغربي كله الذي قُدِّم لكييف طوال 21 شهراً متصلة، فضلاً عن بحث تأمين الاستقرار الإقليمي، وتعزيز أمنه الجماعي، وعلاقته بضبط حركة البرنامج النووي الإيراني في إطاره السلمي وحسب. كذلك تهم العالم كله من ناحية وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بضبط حركة النفط إنتاجاً وأسعاراً في السوق العالمية، وفقاً للآليات التي يُتفق عليها في إطار «أوبك بلس».

هذه النوعية من القضايا التي تبلور حولها قدر كبير من التوافق بين البلدان الثلاثة خلال زيارة الرئيس الروسي ولقاءاته، حين تُقارن بالموقف الأميركي الداعم للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، يدرك المرء المدى الذي سوف تتَّجه إليه التوجهات الاستراتيجية لدول المنطقة. فحين تتوافق موسكو مع كل من الرياض وأبوظبي على بذل جهد مضاعف ومنسق لوقف العدوان الإسرائيلي، في إطار مجلس الأمن الدولي والمحافل الدولية المختلفة، والسعي لإطلاق عملية سلام وفق رؤية الدولتين، تمعن واشنطن في دعم العدوان الإسرائيلي دون أدنى اكتراث بالحجم الهائل والمتصاعد من الشهداء والمصابين والحالة المرعبة والمأساوية التي وصل إليها القطاع وأهله. ولا يقف الأمر عند منع إصدار مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق النار؛ بل الطلب في اليوم ذاته من الكونغرس الأميركي الموافقة على تزويد جيش الاحتلال الإسرائيلي بكمية هائلة تصل إلى 45 ألف قذيفة تستخدم في دبابات «مركافا» الإسرائيلية.

إن تصور وصول هذا العدد الهائل من القذائف ذات القدرات التدميرية المرعبة إلى وحدات جيش الاحتلال العاملة في قطاع غزة، يتبعه مباشرة تصور آلاف من الضحايا والمصابين وآلاف المباني المدمرة وحجم هائل من الخراب، يُضاف إلى ما سبق من دمار وخراب وقتلى ومصابين خلال شهرين متواصلين من العدوان الغاشم على القطاع وأهله، فضلاً عن المناورة بالألفاظ والمفاهيم الخاصة، بما بات يعرف بـ«اليوم التالي لانتهاء الحرب»، والتي يقدر لها أميركياً أن تستمر لمدى 6 إلى 8 أسابيع أخرى.

إنَّ مقارنة عابرة ومن دون أي تأمل عميق، بين الموقف الروسي والموقف الأميركي، تعمِّق استنتاج تضحية الولايات المتحدة بدورها العالمي وشراكاتها التقليدية مع كثير من القوى الرئيسة في العالم العربي، مقابل الانحياز بلا حدود لإسرائيل، مع تجاهل تام للعواقب التي تتولَّد عن هذا الانحياز.

لا تهتم واشنطن كثيراً -ليس فقط البيت الأبيض؛ بل أيضاً المؤسسة السياسية برمتها والمؤسسة العسكرية معاً- بحالة عدم الثقة المتزايدة في الإقليم كله تجاه المسؤولية الأميركية نحو الاستقرار والسلام في المنطقة. وهنا تكمن المشكلة الكبرى.

قد يرى البعض أنَّ تلك المقارنة لا تعني شيئاً؛ لا سيما أنَّ روسيا ومواقفها الداعمة للعرب وقضاياهم لا تتجاوز التصريحات المريحة. والواقع أنَّ المواقفَ الروسية حين تتوفر لها شروط التطبيق من قبل كل المعنيين، فإنَّها تكون حاسمة ومهمة ومحققة لأهدافها، ونموذج التعاون الروسي في «أوبك بلس» خير دليل، والأمر ذاته في أي تعاون دفاعي روسي مع أي بلد عربي، أو أي اتفاقات حول مشروعات تنموية كبرى، كما هي الحال في بناء محطة الضبعة النووية في مصر، ومثيلتها في صورة مدينة صناعية روسية في منطقة قناة السويس الاقتصادية، بينما غالبية الوعود الأميركية مشروطة وقابلة للتراجع والمناورة لأسباب عديدة. وما تفعله الولايات المتحدة في قطاع غزة لا يمنح الأمل في سياسة أميركية منصفة ذات موثوقية.