سأكمل شرح المقطع الذي أوردته في المقال السابق من عمل نجيب محفوظ الأدبي «المرايا» في حديثه عن ذكرياته عن أستاذه الجامعي إبراهيم عقل أو منصور فهمي.
كان نجيب محفوظ وزملاؤه المسيسون في الجامعة المصرية، ساخطين وناقمين على منصور فهمي، لأنه خلف طه حسين في منصبه في عمادة كلية الآداب. وساخطين وناقمين عليه لأنه مؤيد لسياسات إسماعيل صدقي، رئيس الوزراء، ووزير المالية، ووزير الداخلية (1930- 1933). وكانت سياساته مبغوضة من القوى الوطنية المصرية. وساخطين وناقمين عليه لتأييده القصر أو الملك فؤاد.
لكن طلبة كلية الآداب، وبخاصة طلبة قسم الفلسفة، كيف سيترجمون سخطهم ونقمتهم السياسية عليه، وهو العميد ورئيس قسم الفلسفة، والمدرّس لهم في هذا القسم؟
هذا ما سنعرفه من المقطع التالي:
«وفي اليوم الأخير للدراسة، ونحن ذاهبون لعطلة قصيرة نتقدم بعدها لامتحان الليسانس، دعانا إلى الاجتماع به في مكتبه. كنا عشرة ذكور، هم طلاب الليسانس للقسم الذي يرأسه إلى جانب منصبه العام.
أجلسنا أمام مكتبه، وراح ينقل بين وجوهنا عينيه الزرقاوين مطيلاً الصمت والتأمل، وابتسم وهو يهز رأسه في تعال ساخر، وقال: نحن على وشك الفراق ولا يجوز الفراق بلا كلمة.
وعاد ينقل بصره بيننا مواصلاً هز رأسه، ثم قال: طالما خمّنت ما دار بنفوسكم يوماً، ولكن ليس الأمر كما توهمتم!
ها هو يطرق الموضوع بعد صمت طويل، صمت طويل جداً، ولكن علينا أن نلزم أنفسنا الأدب والحذر، علينا أن نذكر أننا سنمتحن في كل مادة تحريرياً وشفوياً معاً، وعلينا أن نذكر أن من حق مجلس القسم تعديل نتيجة الامتحان - بصرف النظر عن الدرجات الحاصل عليها الطالب - لتتفق مع مستواه العام كما يقرره الأساتذة. كل ذلك يضعنا تحت رحمته بلا مراجع ولا معقب. وواصل حديثه قائلاً: المسألة أنني وجدت أناساً يخطبون وأناساً يعملون، فاخترت الانضمام إلى العاملين. وكلنا مصريون... ثم بنبرة تشي بالرجاء: الحقيقة، اعبدوا الحقيقة، اعبدوها واكفروا بأي شيء يتهددها بالفساد.
ظللنا ملازمين الصمت، متذكرين الامتحان الشفوي، وحق مجلس القسم، أما هو فعاد يقول: لن أناقش بقطر، لن أتفوه بكلمة في السياسة، إنما دعوتكم لنلقي نظرة معاً على المستقبل».
سأجتزئ هذا المقطع - الذي هتف نجيب محفوظ وزملاؤه بعد خروجهم من الاجتماع به في مكتبه بتوجيه شتائم له بصوت واحد: الوغد، المهرّج، الدجال - إلى هذا الحد لأن المقطع طويل. وأنتقل إلى شرحه بذكر خلفياته السياسية.
الأناس الذين يخطبون يعني بهم منصور فهمي، مصطفى النحاس وحزبه حزب الوفد. والأناس الذين يفعلون يعني بهم، إسماعيل صدقي وأعضاء حكومته.
من إنجازات إسماعيل صدقي بناء كورنيش الإسكندرية. وكان منصور فهمي يفخر بهذا الإنجاز. ولقد هَزَأ نجيب محفوظ بهذا الإنجاز مرة، فقال لأستاذه منصور فهمي حين التقاه بصحبة أسرته في كازينو الأنفوشي، وهو يحاوره: ليس بالكورنيش وحده يحيا الإنسان.
وندّد به زميله في قسم الفلسفة الذي اختار نجيب محفوظ له اسم إسحاق بقطر، حين دعاهم أستاذهم منصور فهمي للاجتماع به في مكتبه، فقال معترضاً بجرأة:
إن من يخطب مطالباً بالاستقلال والدستور خير ممن يبني الكورنيش ويسفك الدماء.
دستور 1923 الذي ألغاه إسماعيل صدقي بدستور 1930، من الأصل كان منصور فهمي ضده. وهذه المعلومة يعلمنا بها محمد سيد كيلاني في كتابه «فصول ممتعة»، مشنعاً عليه اتخاذه هذا الموقف. يقول في هذا الكتاب: «بل إنه كتب تحت عنوان (قرابين الانتخاب) فجعل المصلحة الشخصية هي الدافع على انتخاب شخص معين. وقال: إن المصلحة الشخصية بمثابة الآلهة التي كان الناس يتقربون إليها فيما مضى بالذبائح. وقربان المصلحة الشخصية هو الضمائر. وقد كتب هذا المقال سنة 1923 حينما كانت البلاد تستعد لاستقبال أول برلمان».
بصرف النظر عن صحة موقف منصور فهمي من الديمقراطية والانتخابات أو خطئه، وبصرف النظر عن ذم محمد سيد كيلاني لموقفه من الناحية السياسية ومن الناحية الوطنية في كتابه «فصول ممتعة»، فإن المعلومة التي ذكرها هذا الرجل عنه، ترشدنا إلى أن موقفه هذا موقف قديم ومبدئي وليس موقفاً محدثاً وطارئاً لمجاراة سياسات إسماعيل صدقي حين أسند منصب رئاسة الوزراء إليه.
أما دعوته لطلب العلم لذاته التي هزأ بها نجيب محفوظ كثيراً، فقال عنها تلميذه أحمد فؤاد الأهواني: «كنا في العقد الثالث من القرن العشرين شباباً مملوءاً بالحماسة والاندفاع والثورة والغرور. كان أمل الواحد منا أن يتم تعليمه ويظفر بالشهادة الجامعية، ليظفر بعد ذلك بوظيفة حكومية تؤمن عيشه ولما كان معظم أساتذتنا من الأجانب، فلم نكن نفضي بذات أنفسنا إلا لهذه القلة القليلة من الأساتذة المصريين ومنهم: الدكتور منصور فهمي. ودار بيننا وبينه الحديث حول مستقبلنا. فكان يقول: اطلبوا العلم للعلم. اطلبوا العلم للعلم، هي العبارة التي رسخت في نفسي، ونقشت في صفحة ذهني حتى اليوم. وكنا في ذلك الحين نسخر من هذا الرأي...إلخ».
لا بد من وقفة تصحيحية للسطر الأول من هذا الاقتباس الذي خانت الذاكرة فيه كثيراً الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ففي العقد الثالث من القرن العشرين، في أوله كان هو يدرِّس الفلسفة والمنطق وعلم النفس في المدارس الثانوية بعد أن حصل على دبلوم معهد التربية العالي عام 1931. وظل في عمله هذا منذ هذا العام إلى عام 1944. في أول الأمر كان مدرِّساً للعلوم المذكورة ثم ترقّى ليكون موجها لتدريسها.
سافر إلى فرنسا عام 1935، لتعلم اللغة الفرنسية ولما أتقنها ذهب في رحلة علمية أخرى، وقضاها بين ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وعاد إلى عمله في القاهرة عام 1937. ثم بدأ في مواصلة دراسته العليا في جامعة فؤاد الأول ما بين أواخر الثلاثينات إلى أوائل الأربعينات الميلادية والتي انتهت بحصوله على الدكتوراه عام 1943.
أحمد فؤاد الأهواني كان من ضمن دفعة السبعة التي هي أول دفعة تخرجت في قسم الفلسفة عام 1929. وهذه الدفعة التحقت بالدراسة في قسم الفلسفة مع تحول الجامعة المصرية الأهلية إلى جامعة حكومية عام 1925.
أفراد هذه الدفعة الريادية، هم: عبد الرحمن بدوي، عثمان أمين، محمود محمد الخضيري، محمد مصطفى حلمي، نجيب بلدي، محمد ثابت الفندي، أحمد فؤاد الأهواني.
هذا التصحيح يقودني إلى تصحيح خطأ آخر، وقع فيه أحمد فؤاد الأهواني، وتبعه في هذا الخطأ إبراهيم بيومي مدكور. فهما يذكران أن منصور فهمي عاد إلى عمله في الجامعة المصرية عام 1920 بعد أن فصل منها لمدة ست سنوات.
والصحيح أنه ابتداءً من هذا العام سمح له بالتدريس بمدرسة المعلمين العليا وليس الجامعة المصرية.
في الطبعة الثانية من ترجمة محمود محمد الخضيري لكتاب ديكارت «مقال عن المنهج» التي صدرت عام 1968 (الطبعة الأولى صدرت عام 1930)، ذكر محمد مصطفى حلمي في مقدمتها أن منصور فهمي عين في تلك الجامعة عام 1926، وعين فيها بعده مصطفى عبد الرازق عام 1928.
ويقول محمد سيد كيلاني: إنه حين أغلقت مدرسة المعلمين العليا عام 1928، نقل منصور فهمي إلى الجامعة المصرية في هذا العام.
نتابع ما قاله نجيب محفوظ عن أستاذه إبراهيم عقل أو منصور فهمي. «ومنذ تخرجنا في الكلية انقضى زمن طويل لم أره مرة واحدة، غاب عن عيني كما غاب عن وعيي، إلا في النادر من المناسبات، وكان يتجنب صالون الدكتور ماهر عبد الكريم منذ وثوبه الانتهازي إلى الوظيفة الكبيرة أن يتعرض لهجوم بعض المتطرفين، فاقتصرت مقابلاته لصديقه على الزيارات الخاصة».
يقول محمد سيد كيلاني عن منصور فهمي: «وبقي في العمادة إلى أن جاءت وزارة توفيق نسيم أواخر سنة 1934، فثار عليه الطلبة، فلجأ إلى القصر، فأمر الملك فؤاد بتعيينه مديراً لدار الكتب. وفي سنة 1946 عين مديراً لجامعة الإسكندرية».
الصحيح أنه كان مديراً لجامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية لاحقاً) إلى عام 1946، فلقد تولى إدارتها عام 1944. وتشاء الصدف أن يخلف طه حسين في هذا المنصب، كما خلفه في منصبه قبلها في عمادة كلية الآداب. طه حسين تولى إدارة هذه الجامعة مع إنشائها عام 1942، وظل مديراً لها لفترة وجيزة، انتهت بعام 1944.
يقصد نجيب محفوظ بالوظيفة الكبيرة تعيين الملك فؤاد له مديراً لدار الكتب المصرية بعد ثورة الطلاب على عمادته لكلية الآداب.
هل فيما فعله منصور فهمي وثوب انتهازي؟
ليس من الانتهازية بشيء، أن يلوذ منصور فهمي بملك بلاده الملك فؤاد، وبخاصة أنه لم يكن معارضا له، بل هو موالٍ له. وكان ينأى بنفسه بعيداً عن السياسات الحزبية المخاصمة له والمختلفة معه. وللحديث بقية.