فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

خلاصات سورية في اللوحة الألمانية

استمع إلى المقالة

بلغ عدد السوريين من غير حاملي الجنسية الألمانية عام 2017 ما إجماليه 699 ألف نسمة، يشكلون ثالث أكبر جالية في ألمانيا بعد الأتراك وعددهم 1490 الفاً، والبولنديين البالغ عددهم 867 ألف نسمة. وتغير عدد السوريين في السنوات الست التالية، وصار عددهم 940 ألفاً عام 2023، مما جعلهم في المرتبة الثانية بين الجاليات بعد الأتراك المكرس وجودهم هناك عبر سبعة عقود من السنوات.

وتبدُّل عدد السوريين واحد من تغييرات فرضها وجودهم في السنوات الماضية، تركوا فيها بصمات وجودهم في اللوحة، وبعد أن كانوا لاجئين صاروا من المقيمين، حيث تجاوزوا صفة اللاجئ، وهو الحائز على إقامة أولى، ويتلقى الإعانة من الدولة، وتجاوز عائق اللغة، ماضياً في واحد من اتجاهين صار إليهما أغلب السوريين: الانخراط في سوق العمل مشتغلاً أو باحثاً عن عمل، أو أنه في مرحلة الدراسة الأساسية أو التعليم المهني.

أتيح لي مؤخراً، أن أزور مناطق واسعة من ألمانيا، شملت مدناً وقرى في الجنوب والغرب، وصولاً إلى برلين في الشمال الشرقي، التقيت فيها أقارب وأصدقاء منوعين في معارفهم وعلاقاتهم وأعمالهم لدرجة يمكن أن أقول معها إنهم يمثلون ملامح أشخاص السيرة السورية في بلد من أهم بلدان العالم، وبين من استقبل عدداً كبيراً من السوريين، وصنع معهم وبهم واحدة من أهم التجارب التي تستحق الوقوف عندها، وتلمس بعض نجاحاتها وسلبياتها من وجهة نظر تجربة شخصية مع ألمانيا والسوريين فيها، تقارب 10 سنوات.

وتبين الأرقام الرسمية أن مستويات تعليم السوريين أعلى من المتوسط، مقارنة بمجموعات اللاجئين الأخرى، حيث هناك 71 في المائة لديهم شهادة تخرج في المدرسة، و32 في المائة أكملوا المستوى الأعلى في المدرسة الأساسية، وفي التعليم المتخصص والتدريب المهني، و8 في المائة فقط لم يذهبوا إلى المدرسة.

وعزز استقرار السوريين واندماجهم في الحياة وفي التعليم حضورهم في سوق العمل، ومنذ عام 2019 وصل عدد السوريين الخاضعين لنظام الضمان الاجتماعي نحو 132 ألفاً، وسجل في العام ذاته أكثر من 260 ألفاً في قوائم الباحثين عن فرص عمل في وكالة التوظيف نهاية عام 2019، ولا يحتاج إلى تأكيدٍ القولُ إن الأعداد تزايدت وتتعدد مجالاتها في ميادين ومهن مختلفة، بما فيها المشاريع الخاصة في مجال الخدمات والتجارة والحرف.

إن حصول السوريين على الجنسية الألمانية عزز وجودهم، بل جعل حضورهم يتجه إلى زيادة التأثير في الفضاء العام بما فيه السياسي بحضورهم في الأحزاب والمؤسسات التمثيلية والاجتماعية والإدارة، بعد أن أنهى غالبيتهم سنوات الإقامة البالغة 6 سنوات والانخراط في العمل، فصعد عدد الحاصلين على الجنسية في الأعوام 2020 و2022، وبلغ في العام الأخير ضعف ما كان عليه في عام 2021 وعدة أضعاف ما كان عليه العدد في 2020، وكان العدد في حينها 6700 شخص فقط، ويتوقع في السنوات المقبلة أن يرتفع عدد الحاصلين على الجنسية.

لم يكن وجودهم وما أحاط به من تغيرات سهلاً على السوريين، وهم القادمون من عالم مختلف في بيئته ولغته وعلاقاته، والأهم أنهم قدموا من بلد يخوض فيها النظام الحاكم حرباً شاملة ومستمرة منذ سنوات ضدهم، قتل فيها كثيرون، واعتقل وجرح أضعافاً مضاعفة، ودمر ممتلكات وقدرات ملايين، وهجّر مثلهم في أنحاء العالم، وأغلب السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا ناجون من تجار البشر وقوارب الموت التي حملتهم عبر البحر المتوسط في تجارب مأساوية، قبل أن يستقروا في ألمانيا.

ورغم كل حيثيات اختلافهم عن الألمان، والمعاناة التي أحاطت بهم وحملوا آثارها إلى شتاتهم، فقد حققوا قدراً من نجاح، استحق بشكل متكرر إشادات ألمانية، بدأت من مرتبة المستشارية وتواصلت إلى المستويات الدنيا في الدولة، وجوهر الإشادات أن موجة اللجوء السوري، كانت أهم الموجات التي وصلت ألمانيا بعد الحرب الثانية، وبدا من الطبيعي أن تترك الإشادات أثرها في أوساط الرأي العام الألماني.

الصورة الإيجابية لحضور السوريين في اللوحة الألمانية، لم تكن بلا ظلال من سلبيات، يتصل بعضها بالسوريين من طراز عدم القدرة على التوافق مع الحياة الألمانية في العادات والتقاليد والثقافة، ومنها قيم المجتمع الذكوري الأكثر حضوراً في حياة السوريين، وطبيعة العلاقات الأسرية، والعلاقات بين الرجل والمرأة، والتحكم بالأطفال، ومنها عدم القدرة - وأحياناً عدم الرغبة - في تعلم الألمانية، ورفض قبول عروض العمل سواء بسبب صعوبتها أو لمكانتها الاجتماعية، وكله يضاف إلى أن كثيراً من أعمال موجودة في حياة السوريين غير موجودة عند الألمان.

والجانب الآخر من السلبيات يتصل بالألمان الذين تكتسب، ليس قراراتهم فقط، إنما آراؤهم ومواقفهم بما فيها الصادرة عن الموظفين الصغار واجب التنفيذ، لا سيما أن الذات الألمانية غارقة في موروث ثقافي معرفي، وقدرات علمية وإنتاجية، وخبرات تنظيمية وعملية، تجعل الألمان أعلى من النقد، وغالباً أعلى من النقاش؛ إذ هم على حق دائماً، وهذا شائع في المستويات الوسطى في الإدارة والمجتمع، وهو يصنع ويوجه العلاقة مع اللاجئين السوريين.

لقد ترتب على السلبيات من الجانبين مشاكل ومآسٍ، ضربت اللاجئين في مستويات متعددة، وتركت آثارها السلبية وخاصة عند كبار السن والنساء غالباً والشباب القادمين من مجتمعات أعماق الريف السوري ومن الأوساط المحافظة في الموضوعات ذات البعد الديني بمعناه البسيط، وفي البعد الاجتماعي أيضاً، كما أثرت السلبيات الألمانية في الفئات المتعلمة من خريجي المعاهد والجامعات والتخصصات العليا، ورفض اعتمادها أو معادلتها، مما أضاع فرصة الاستفادة منها وعدم تشغيل أصحابها.

وإذا كان ضحايا السلبيات من السوريين ليس بمقدورهم سوى القبول السلبي بما يعتبرونه نهجاً مفروضاً وقرارات لا راد لها، فإن الألمان، وحيال ما اكتشفوا وعرفوا من سلبيات، عملوا جهدهم في علاجات تجريبية عبر صياغات قانونية وإدارية، جعلت السياسة الألمانية في المستوى الاتحادي وفي مستوى المقاطعات، متقلبة وحافلة بالأخطاء.

وإن كان لا بد من خلاصة لواقع السوريين في اللوحة الألمانية، فيمكن القول إن السلبيات، على أهميتها، ليست موازية ولا حتى مقاربة لما في اللوحة من إيجابيات، تشارَك في صُنعها سوريون هربوا إلى مكان آمن من أجل حياة أفضل، وألمان فتحوا أبواب بلادهم لتلبية حاجتهم لمن يشاركهم في تجديد طاقاتهم، ويعطي لهدفهم قيمة إنسانية، يحبون تأكيد حضورها في وقت تتحفظ فيه عشرات الدول عن التفكير فيها.