ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

150 عاماً على آزورين

استمع إلى المقالة

لم أتعرّف عليه أبداً، لكني كنت دائماً توّاقاً لذلك. أدين له بقراءة «دون كيخوتي» الذي حاولت فكّ رموزه عندما كنت على مقاعد المدرسة، لكن عباراته وأسلوبه كانا يهزمانني، وبعد اللجوء مراراً عديدة إلى المعجم قررت الاستسلام وأنهيت المدرسة من غير أن أقرأ هذا الكتاب الذي كان أساتذتي يعدونه أعلى قمم اللغة الإسبانية. وكان لا بد من الانتظار حتى قراءة النص الرائع الذي وضعه آزورين في عام 1905 بعنوان «طريق دون كيخوتي»، كي أستجمع الثقة للعودة إلى قراءة الكيخوتي مرة أخرى، وأتمتّع بذلك النص الفريد الذي له، عندي، نكهة أسلوب آزورين. أعتقد أن كليهما يختلفان كثيراً أحدهما عن الآخر، ويستعصيان على أي مقارنة. الكيخوتي طريف وجذل، وأسلوبه شيّق ومرح، أما آزورين فهو صارم، وأنيق ويتساقط على ذاته. لكن النزهة التي يدعو إليها «طريق الكيخوتي» في بطاح لا مانتشا ودساكرها، هي نصّ رائع يمهّد لقراءة الكيخوتي بالتضاد مع سرفانتيس. ولو كان أتيح لي أن ألتقي آزورين وهو يتمشّى ليلاً، كعادته، في شوارع مدريد، لقلت له إني أحمل في عنقي ديناً كبيراً جداً له، لأني تمكنت من قراء الكيخوتي بفضل تلك الحوليّات، وأيضاً بفضل بحثه الطويل «على هامش الكلاسيكيين» الصادر عام 1915، الذي هو أيضاً تحفة أدبية حفّزتني على التصدّي لرائعة سرفانتيس.

كان آزورين صاحب الأسلوب الأكثر أناقة في تاريخ اللغة الإسبانية. وكان عالمه من القرى الصغيرة والمخفيّة بين حنايا الطبيعة، والكتّاب الذين لم ينشروا شيئاً في حياتهم وكان هو يكتشفهم في حوليّاته التي لا تنسى. صحيح أنه كان ينتمي إلى الحركة الفوضوية في شبابه، وإلى الفرنكية في شيخوخته، لكن تلك الانحرافات لم تقف حائلاً دون رشاقة نثره، علماً بأن تعاطفه مع نظام الجنرال فرنكو كانت له تبعات سلبية عندما نبذه مفكرون وقللوا من شأن أعماله لاعتباره يمينياً. أما السحر الذي كان يصف به الوقائع والأحداث في تلك القرى، ويمدّها بالحياة المصفّاة في رحيق أسلوبه الفريد، فلم يكن أحد قادراً على مجاراته به بين كتّاب الإسبانية.

كان قليل النوم، واعتاد أن يعرّج في ساعات الصباح الأولى على الصحف ويتحاور مع المحررين. واللافت أن معظم كتاباته كانت صحافية، ورغم ذلك كان له أسلوبه المميّز والخاص، حتى في المذكرات التي وضعها عن إقامته في لا مانتشا، عندما كان يحتفل بالذكرى المئوية الثالثة لصدور الكيخوتي عبر نصوص لم تكن نقداً أدبياً بالمعنى الأكاديمي المتعارف عليه، بل وسيلة تساعد القرّاء غير المتمرسين على اكتشاف وسبر أغوار بعض المؤلفين الكلاسيكيين، بما في ذلك الأدب الوسيط والعصر الذهبي للغة الإسبانية.

«زبدة الابتذال»، هذا ما قال عنه يوماً المفكّر الكبير أورتيغا غاسّيت. أعتقد أني قرأت العشرات من مؤلفات آزورين، ولم أقع فيها أبداً على شيء من الابتذال، علماً بأن نثره كان يرقى بالجوانب البسيطة في حياة الأرياف إلى مصاف الفنون الجميلة. أسلوبه في منتهى الأناقة، ودقّته في الوصف متناهية لا تضارع . ربما لا أحد يقبل على قراءة آزورين اليوم، حيث الصحافة أصبحت مرتعاً للإهمال والعبارات الخاوية والسرد الذي لا يحمل أي معنى أو مضمون أدبي. وهذا تماماً عكس ما كان يحدث مع آزورين، ودقة تعابيره، وأناقة جمله التي كان يكاد يعرّيها من كثرة دوزنتها وهندمتها. ورغم ذلك، فهو كان يكتب كل يوم، ولا يكرّر ما يكتب لأنه كان دائماً يرى ما لا يراه الآخرون، ويضفي على مقالاته ما يشبه الحقيقة العميقة، كما لو أنها تستند إلى جبال من التبحّر واليقين.

كان آزورين ميّالاً إلى الوحدة، لا بل شغوفاً بها. ورغم أنه لم يمانع في الانتماء إلى جيل أدبي معيّن، إلا أن مزاجه كان دائماً يجنح نحو الانفراد للتأمل في إسبانيا السحيقة التي يسودها السكون العميق، وتتوقّف عقارب الزمن لتضفي على الأشياء البسيطة ديمومة تحجّرها في انتظار الزوال. ولهذا السبب لا بد اليوم من العودة إلى قراءة آزورين، وإزاحة الستار عن تلك المطارح المنسيّة، والمؤلفين الذين كان يكتشفهم بقوّة حدسه وبصيرته الأدبية ويسلّط الضوء على ما لم تكن تقع عليه عيون الآخرين ويرقى بكتاباته إلى مصاف الكنوز الثمينة.

ويقال إن آزورين اكتشف السينما في الهزيع الأخير من حياته. لكن مقالاته السينمائية هي دون تلك التي كان يجدد فيها الحياة بنثره الفريد الذي كان يضفي السحر والأناقة على كل ما يلمسه، لأن فيه ما هو مقصور على حفنة ضئيلة من الكتّاب الذين يبعثون الحياة في جماد الكلم ويهدوننا متعة القراءة. ولا يوجد، بين كتّاب جيله، من يجاريه في الدقّة والأناقة، علماً بأنه كان يكتب معظمها في عجالة الأوقات الضيّقة، وعلى الأرجح من غير تصويب أو مراجعة، على غرار جهابذة النثر في أوروبا.

كان صارماً ينأى عن المساومة في كل ما كتب، وإني على يقين بأنه لم يكن يكترث لما يعتري قرّاءه من ذهول وانبهار، لأن سرّه الدفين كان اكتشاف تلك الشخصية التي يقيمها من رميم النسيان، ويلبسها حلّة من ذهب، ويحذّر من تسوّله النفس الاعتراض على تلك القراءات، لأنه وحده كان يملك مزيّة الصفوة بين كبار الكتّاب في كشف سرّ التواصل على كل ما يلمسه من أشياء، ونصوص أو تفاصيل تحيي كل ما هو منسي أو مدفون.

حاولت مرة مقارنة نصوص آزورين بنصوص نماذجه، لكني لا أنصح أحداً بالإقدام على مثل هذه المغامرة، لأنه نسيج وحده ولا جدوى ترتجى من مراجعة ما كان يسلّط الضوء عليه بأسلوبه الفريد. جال على إسبانيا القديمة بنظرة حانية ورؤوفة، وأضاء على ما كانت السرعة تخفيه عن العيون من حجر وشجر، أو من تلك النصوص التي كان يتمتع ويمتعنا بها.

مائة وخمسون سنة انقضت على ولادته، وما زالت الكتب التي تركها لنا هي أفضل النثر باللغة الإسبانية، ومعجزة لا ينافسه فيها أحد، لأن آزورين لم يكن له نظير أحد.

كتب في المسرح أيضاً، وبعض الروايات التي طواها النسيان مع مرور الزمن. لكن الأهمّ هي مقالاته التي كان يكتبها كل يوم، من غير أن يقع أبداً في الخطأ، ويرسم لنا طريقة خاصة جداً في النظر إلى إسبانيا. وعندما كان يضع تلك الكتب التي كان يعتبر نفسه عميقاً فيها، كان في الواقع سطحياً. لكن عظمته كانت تكمن في تلك المقالات التي كان يملأ بها حياته كل يوم، فينير لنا طريقه الفريد إلى كشف مكامن الطبيعة، أو إلى قراءة الكتب التي تعرّي لنا مواطن الجمال التي لم يكن أحد ينتبه إليها. والأعمال التي كرّس لها الوقت الطويل لم تصمد أمام مرور الزمن، لكن مقالاته الصحفية هي التي بقيت شامخة عبر السنين. لأجل ذلك، ولأمور عديدة لا تحصى، لا بد من قراءة آزورين لأنه يدلّنا كيف نحن، وكيف نتخيّل أنفسنا، ولأن الحقيقة العميقة ساكنة في نصوصه التي تستحق أن نتذّكرها اليوم بمناسبة مرور 150 عاماً على ميلاده.