جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

المشروع الأفريقي

في مطعم سوداني بالقاهرة، كانت مائدة الإفطار حافلة بضيوفها، مثل كل عام.
حضرنا قبل الموعد بوقت كاف، أحد الدبلوماسيين الأفارقة حاول أن يكسر الصمت المعتاد، قبل مدفع الإفطار، فسألني: كيف تقرأ جولة نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، إلى أفريقيا الأيام الماضية؟
قلت له: سؤالك سهل، في توقيت صعب، فنحن أمام ماراثون عالمي، تجاه المقدرات الأفريقية، لكن الولايات المتحدة الأميركية لديها استراتيجية جديدة لاستعادة زمام العلاقات الأميركية الأفريقية، فقد تابعنا الفترات الماضية حجم الزيارات المكوكية التي قام بها مسؤولون ووزراء أميركيون إلى أفريقيا، ولعلنا نتذكر انعقاد القمة الأفريقية الأميركية التي استضافها الرئيس جو بايدن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وحضرها نحو 49 زعيماً وقائداً أفريقياً، وأذكّرك أيضاً بأن هذه القمة الثانية منذ عام 2014، وبالتالي، فإن جولة كامالا هاريس، تأتي ضمن السياق الأميركي لترتيب أوراقه في القارة الشابة، واشنطن تحاول جاهدة محو تجاوزات دونالد ترمب التي أثرت سلباً في علاقاتها بأفريقيا، وفتحت الأبواب لقوى أخرى، مثل الصين وروسيا وبعض الدول الإقليمية الأخرى، ومن ثَم، فإن واشنطن أدركت حجم هذا التحدي، وتبنت استراتيجية الاستدارة نحو أفريقيا، تهدف إلى وجود أميركي غير تقليدي، تكون له الغلبة أمام المشاريع المنافسة الأخرى، والنظر إلى أفريقيا من زاوية جيوسياسية، وليس كنظرة أمنية خالصة، كما كان في السابق، وفتح جسور جديدة للتواصل مع الشباب الأفارقة دون الارتكان إلى النمط القديم في العلاقات مع القيادات والنخب فقط، والتركيز على القضايا الحيوية الجديدة التي تهم أفريقيا، وفي مقدمتها التحول الرقمي، والاقتصاد الأخضر، وقضايا المناخ.
قاطعني محدّثي، لكن هناك قوى جديدة لديها مشروعاتها الخاصة بها في أفريقيا مثل الصين وروسيا؟ قلت: معك حق، فهذا دافع أكبر التحركات الأميركية، فلو تحدثنا عن الصين فسنجد أنها أصبحت الشريك التجاري الأول لأفريقيا منذ 2019، وأنها تحرص دائماً على التعامل بطريقة مغايرة عن منافستها الأميركية، فبكين ليست لها أي شروط سياسية للتعاون الاستثماري والاقتصادي مع القارة الأفريقية، على عكس واشنطن، التي تضع المشروطية السياسية، وملفات حقوق الإنسان والديمقراطية قبل التعاون الاقتصادي، ومن ثم، فإن هذا النهج الصيني منحها مساحة أوسع داخل القارة السمراء، وبات لها قبول وترحيب من جانب الأجيال الجديدة من الزعماء الأفارقة.
لا سيما أن الصين تركز على مشروعات البنية التحتية التي تحتاجها أفريقيا من جانب، وتمثل عصب مشروع «الحزام والطريق» من جانب آخر، فضلاً عن أن الفلسفة الصينية في الاستثمار في أفريقيا تقوم على مقاربة «رابح - رابح»، أي إن جميع الأطراف تجني ثمار هذه العلاقة، وهو ما وجد قبولاً كبيراً من جانب الأفارقة.
ثم قلت: هناك مشروع ثالث في أفريقيا، وهو المشروع الروسي الذي يستثمر في العلاقات القديمة بين الاتحاد السوفياتي السابق وأفريقيا، واستطاع أن يجد له - وسط هذا التنافس الكبير - موطئ قدم، بل نجده يتوسع يوماً بعد الآخر، خصوصاً في دول مثل أفريقيا الوسطى ومالي وباقي دول الساحل والصحراء، مع الوضع في الاعتبار، أن روسيا باتت الشريك الأمني والعسكري الموثوق به، من جانب الدول الأفريقية وزعمائها، فليس خافياً على أحد، أن هناك نحو 40 بعثة عسكرية وأمنية أفريقية تتلقّى تعليمها في روسيا، وقد شهدنا حجم التقارب الكبير بين روسيا وأفريقيا، في قمة «سوتشي» عام 2019، فضلاً عن استعداد الطرفين لعقد قمة جديدة في يونيو (حزيران) المقبل.
قاطعني أحد الضيوف الآخرين متسائلاً: ماذا عن فرنسا وباقي الدول الأخرى؟ قلت له: فرنسا في هذا التوقيت بات لها مشروعها المستقبلي الذي يعتمد على القوى الناعمة مثل اللغة الفرنسية والتعليم، بدلاً من اللغة الخشنة التي كانت تتمثل في الوجود العسكري في أفريقيا، ولهذا شهدنا خلال العامين الماضيين، سحب آلاف الجنود الفرنسيين من مالي وبوركينا فاسو وتشاد، وبالتالي، لا أظن أن فرنسا ضمن الثلاثة الكبار في الصفوف الأولى من السباق نحو أفريقيا، ولا أنكر عليك أن بعض الدول الأوروبية الأخرى تحاول جاهدة اللحاق بالمنافسة، عبر مشروعات للبنية التحتية، لكن لم نلمس أي ثمار لها حتى الآن.
سألت صديقي الدبلوماسي الأفريقي: نحن نتحدث عن مشروعات كبرى تتسابق على الاستفادة بخيرات وموارد ومقدرات القارة الأفريقية، فلماذا لا يوجد المشروع الأفريقي نفسه الذي يجمع كل الأفارقة ويوحّدهم؟
أجابني: هذا هو ما يجب أن يكون، فأفريقيا قارة عملاقة، تمثل المصدر الأول للموارد والمواد الأولية في العالم، وعدد سكانها يصل إلى 1.4 مليار نسمة يشكلون نحو 15 في المائة من سكان العالم، ولديها السكان الأكثر شباباً على سطح الكوكب، وأصبحت واحدة من أكثر وأسرع مناطق العالم نمواً، كما أنها تشكل كتلة تصويتية ضخمة في المحافل الإقليمية والدولية، بـ54 دولة، فضلاً عن الأهمية الجيوسياسية، باعتبارها تتوسط قارات العالم القديم والجديد، وبالتالي فالقارة السمراء مؤهلة لأن تكون على نفس المكانة التي عليها الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، خصوصاً أنها نجحت في الخطوة الأولى من هذا المشروع، عندما اكتمل النصاب القانوني للبدء في تطبيق اتفاقية التجارة الحرة عام 2019، وهذا يتطلب القيام بسلسلة من الخطوات الأخرى في مقدمتها: ضرورة إسكات البنادق، ووقف الصراعات الداخلية في الدول، وأيضاً بين الدول وبعضها بعضاً، وتعزيز شبكة النقل من شمال القارة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، والعمل على تحويل أفريقيا إلى قارة صناعية.
أنهيت كلامي مؤكداً أن المستقبل سوف يكون أفريقيّاً، وأن مشروع القارة الشابة سيكون هو الأقوى بين المشروعات المتنافسة.