جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أوروبا: الوحدة المأمولة ومطب الانقسام

في مدينة براغ، عاصمة التشيك، على مقربة من الحدود الروسية، اختارت الجماعة السياسية الأوروبية «European Political Community» عقد أول لقاء لها، في نهاية الأسبوع الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
اختيار براغ كان بتنسيق من قصر الإليزيه في باريس، باعتبار أن فكرة تأسيس الجماعة كانت من بنات أفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومن رئاسة الاتحاد الأوروبي في بروكسل. الغرض من ذلك توصيل رسالة إلى موسكو بتأكيد وحدة دول أوروبا في موقفها المعارض من الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
44 من رؤساء حكومات الدول الأوروبية حضروا اللقاء؛ أي بزيادة عدد 15 دولة عن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. دولتان أوروبيتان فقط لم يتم دعوتهما إلى حضور اللقاء، ولأسباب معروفة، وهما روسيا وروسيا البيضاء. وبالطبع، لم يتم كذلك دعوة واشنطن؛ لأن اللقاء أوروبي، لكن إسرائيل كانت حاضرة! بريطانيا ممثلة في رئيسة الحكومة السيدة ليز تراس، حضرت اللقاء بحماس، وطلبت عقد اللقاء الثاني للجماعة في لندن، بعد ستة أشهر. بريطانيا اعتبرت تأسيس الجماعة هدية جاءتها من السماء، لكونها تُرضي المناوئين للاتحاد الأوروبي، وتتسق مع رغباتهم، وفي ذات الوقت، تُعدُّ بوابة خلفية تعيدها إلى طاولات صنع القرارات في أوروبا، بمنأى عن تعقيدات لوائح وقوانين بروكسل.
واستناداً إلى تقارير إعلامية أوروبية، فإن الهدف من اللقاء هو وضع خطة مشتركة، قبل حلول فصل الشتاء، لتفادي النقص في الطاقة، وبالذات الغاز، والبحث عن طرق لتخفيض أسعارها. أغلب القادة المجتمعين في براغ اتفقت توقعاتهم على أن الحرب في أوكرانيا ستتواصل خلال فصل الشتاء القادم، بعد إعلان موسكو التعبئة الجزئية، وبدء وصول أفواج المجندين الجدد إلى الجبهات. التوقعات ليست خاطئة، كما أثبتت تطورات الحرب أخيراً.
قبل الاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا، كانت أوروبا تستورد 41 في المائة من احتياجاتها من الغاز من روسيا. وبعد قرار الاستغناء عن الغاز الروسي، بلغ حجم شحنات الغاز الروسي المستورد نسبة 7 في المائة فقط. تكفلت كل من النرويج والجزائر بتعويض معظم الشحنات.
المعلقون الغربيون يرون أن أحد أهم أسباب تأسيس الجماعة السياسية الأوروبية، يعود إلى العوائق المنصوبة أمام دول أوروبا الشرقية في الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وعضوية حلف «الناتو». الانضمام إلى المنظمتين يستغرق سنوات طويلة، وعبر قنوات متعددة، لا تتيح القبول إلا بعد الإيفاء بالمعايير المطلوبة للعضوية، في مجالات البنية التحتية، الأمر الذي يصعب على كثير من الدول تحقيقه. ومن ثم، فإن تأسيس جماعة أوروبية، يتجاوز تلك المعضلات، كفيل بتوفير حل للمشكلة، بالإضافة إلى أنها توحّد دولها في منظمة واحدة، تعمل على تسهيل وتسريع التعاون والتشاور والتواصل بينها.
الأزماتُ هي المحكُّ للحكم على أي وحدة سياسية. والأزمتان الأخيرتان: الوباء الفيروسي، ونقص الطاقة، أبانتا أن محاولات تأسيس وحدة أوروبية ما زالت في بداية طريق مليئة بالعراقيل والمطبات.
الوحدة الأوروبية المزعومة ضد روسيا، في اجتماع براغ أخيراً، بدتْ كفقاعة هوائية، معلقة في فراغ. والاجتماع المنتوي لإظهارها أبان صدعاً كبيراً وقديماً في الجدار الأوروبي، يقسم أوروبا؛ ذلك أن الانقسام بين الشمال والجنوب، والدول الغنية والفقيرة، عاد إلى الظهور، وألقى بظلال كثيفة على اللقاء. واتضح أنّه غير قابل للتجسير بعدُ. وعاد بالذاكرة إلى ما أحدثه من شقاق وتنافس خلال الأزمة الوبائية، حين سارعت بعض دول الاتحاد الأوروبي الغنية بمنع صادرات الأدوية إلى غيرها من الدول الأعضاء، وأغلقت حدودها بين عشية وضحاها. وقامت دول أخرى بفتح خزائنها، وسارعت باقتناء كل ما بإمكانها الحصول عليه من شحنات التلقيحات المضادة للفيروس، وتركت شعوب جاراتها الفقيرة تواجه أقدارها.
ما حدث خلال تلك الأزمة، أطل برأسه مجدداً في أزمة نقص الطاقة الحالية، وتجلّى واضحاً في شدة التنافس بين الدول الغنية لضمان حصولها على احتياجاتها لمواجهة فصل الشتاء القادم. وفي جلسات اجتماع براغ، تجاهل الحاضرون أجندة الاجتماع، وحوّلوه إلى ساحة لتبادل الاتهامات. ألمانيا، قائد المجموعة الأوروبية، وأكبر اقتصادات القارة، كانت الهدف لسهام النقد والاتهام من قادة الدول الفقيرة، وخاصة بولندا. ألمانيا خصّصت ما قيمته 300 مليار يورو لضمان حصولها على ما تحتاجه من شحنات الغاز اللازم لتشغيل مصانعها، وتوفير الكهرباء والتدفئة. المبلغ أعلاه، وفقاً لتقارير إعلامية، يتجاوز قيمة ما خصّصته كل من إيطاليا وفرنسا معاً لنفس الغرض. وما قامت به الحكومة الألمانية جاء معارضاً لتوجه رئاسة الاتحاد الأوروبي، الهادف إلى محاولة وضع خطة أوروبية تضمن تحرك دولها في كتلة واحدة، وبقدرة تفاوضية هائلة في أسواق الطاقة، تتيح لها الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة، إلا أن المناورة الألمانية، والسرعة التي نفذت بها، قلبت الحسابات. ولم تكتفِ الحكومة الألمانية بذلك، بل رفضت النقد، وأصرت على صحة تدخلها لحماية المستهلك الألماني والصناعة الألمانية.