«في البحث عن الزمن المفقود»... بحث عن الذات بمواجهة تفاهة العالم

مائة عام على رحيل مارسيل بروست صاحب أطول رواية في تاريخ الأدب إلى اليوم

مارسيل بروست - غلاف الكتاب
مارسيل بروست - غلاف الكتاب
TT

«في البحث عن الزمن المفقود»... بحث عن الذات بمواجهة تفاهة العالم

مارسيل بروست - غلاف الكتاب
مارسيل بروست - غلاف الكتاب

تتفق غالبية مؤرخي الثقافة على أن عام 1922 كان مفتتح تاريخ الحداثة الأدبيّة. وهذا أمرّ قلّما يحدث؛ إذ تنحو كل محاولات التأريخ إلى اعتماد فترات زمنيّة أطول؛ جسوراً للانتقال بين المراحل. على أن ذلك العام شهد تصادفاً عجيباً لظهور 3 روايات غيّرت قواعد اللعبة التي اعتادها القرّاء في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: «يوليسيس» للآيرلندي جيمس جويس، و«غرفة جاكوب» للبريطانيّة فرجينيا وولف، كما الترجمة الإنجليزيّة لـ«البحث عن الزمن الضائع» للفرنسي مارسيل بروست. وبينما عاش جويس ووولف ليشهدا وقع عمليهما الأشهران على المزاج الأدبي الغربيّ، فإن بروست رحل عن العالم في العام ذاته ولمّا تكن حتى المجلدات الثلاثة الأخيرة من روايته قد رأت النّور بعد في لغتها الأم، ونشرها أخوه روبرت لاحقاً كما هي دون تدقيق أو مراجعة. لكن «البحث عن الزّمن الضائع» - التي تعد بمجلداتها السبع أطول رواية معروفة لنا في تاريخ الأدب كلّه إلى اليوم - لقيت مزيجاً غريباً من الاحتفاء والشهرة والذكر المستدام مع ندرة في عدد القرّاء الذين أقدموا على قراءتها بالفعل. ويبدو أن الرواية اكتسبت لشدة ترحيب النّقاد بها مهابة جعلتها أقرب إلى أن تكون نخبوية لا يجرؤ على تعاطيها سوى الخاصة من المثقفين، وزادها امتدادها إلى 7 مجلدات عزلة عن القراء الملولين، وسقط كثير من الفضوليين منهم بعدما أتموا بالكاد أول 50 أو 60 صفحة منها عندما أفزعتهم جمل بروست الطويلة، ولم يعودوا مطلقاً. ولذلك فقد يستحيل أن تجد معنياً بالأدب والقراءة لم يسمع بـ«البحث عن الزمن الضائع»، لكن من قرأوها بالفعل يشكلون نوعاً من عملة نادرة.
على أن هذه التحفة؛ التي قالت فرجيينا وولف بعدما اطلعت على مجلدها الأوّل: «آه؛ لو كان بإمكاني الكتابة هكذا!»، ووصفها الكاتب والروائي الأميركيّ إدموند وايت بأنّها «الرواية الأكثر مدعاة للاحترام في القرن العشرين»، وعدّها الناقد روجر شاتوك «أعظم رواية وأكثرها مكافأة لقارئها في القرن العشرين»، فيما تكرر تصنيفها بين مختلف النقّاد بوصفها نسقاً مؤسساً للروايات الحداثيّة لقطعها الصارم مع صيغة روايات القرن التاسع عشر... تمتلك من الثراء والعمق والمتعة النادرة التي تكافئ كل من يعبر أوّل مائة صفحة منها، فكأنها صممت عمداً مثل مقابر ملوك مصر العظيمة التي كانت تمتلك أبواباً مزيفة لإبعاد اللّصوص والمترددين. كما أن ثيماتها المتعلقة بالبحث عن الذّات في مواجهة تفاهة العالم، ومعنى الحبّ والعلاقات والإخفاقات، وتحولات حظوظ الطبقة الاجتماعيّة، والاستعادة الجبريّة اللاوعية للذكريات، وقيمة تجارب الماضي وخيباته... لا شكّ تظل جميعها بعد مائة عام على غياب كاتبها طازجة، وحيّة، وذات صلة عابرة للجغرافيا والتاريخ معاً.
لا يسهل بالطبع تلخيص «البحث عن الزمن الضائع» في سطور قليلة. فهذه الرواية نقيض تام لمبدأ الحبكة، ومتطلبات لزوم الواقع، التي طبعت الرواية البرجوازيّة قبلها، ونهجها تجريبي فجّ يُخَلَّق عوالم متوالدة تعيد إنتاج ذاتها مع تقدّم السّرد، في حالة من التدفّق النثري المستمر على نحو يجعل من مهمة وضعها في صندوق من أسطر قليلة مهمّة مستعصية. وإن كان لا بدّ من ذلك على نحو ما، فإنّ جلّ ما يمكن قوله إنّها قصّة حياة إنسان بين الطفولة والنضوح تعاش على الصفحات حتى تتداخل فيها حكاية الرّاوي مع سيرة الكاتب حد الامتزاج، إلى أن تنتهي في لحظة ما متأخرة من منتصف عمر الرّاوي يبلغ فيها ذروة تجربته بالعيش عندما يجد ذاته في الكتابة، ولنجد نحن القراء حينها أيضاً أنّها أنتجت الرّواية التي كنّا نقرأ طوال المجلدات السّبع. ولذلك؛ فإن نسيج الرواية الأصلي مطابق لحياة الكائن البشري: ثمة حكاية ما، وحكايات تتوالد على هامش الحكاية، وعبث اللاحكاية، في آن. ويستتبع هذا التشكيل الفنيّ مسارات متوازية من خيبات الأمل والبدايات المجهضة والنهايات المبكرة التي يسلكها الراوي والكاتب والقارئ معاً في سياق رحلة التيه في البحث عن الزّمن الضائع (أو المفقود؛ حيث لا يمكن نقل الفرق الدّقيق بينهما كما في الفرنسيّة إلى قراء اللّغات الأخرى) مع شعور ممضّ يطبق على الصدر بغياب المعنى والجمال عن هذا العالم، وغلبة الحماقة والتعاسة على من نلقاهم من البشر، وضياع الوقت ونزفه اللحظيّ، وشعورنا الدائم بأنه لا بدّ ثمّة شيء أو شخص ما ينتظرنا ونعجز عن العثور عليه. لكنّها مع ذلك رحلة تكافئهم جميعاً في نهايتها بصور مختلفة، فينتهون ثلاثتهم ممتنين، مكتفين، شاكرين لتجربة العيش التي جمعتهم، ويفترقون بينما استرد كل منهم زمنه الضائع. إنها رواية تستنفد قارئها، لكنّها تمنحه الأمّل بأنّه لم يفت الأوان بعد، مهما تأخر الوقت، للعثور على مزاج عيش يتماهى معه ويجد ذاته فيه، ويسابق الموت لاختباره حتى الثمالة...
رواية بروست ورغم عالميّة وأبديّة ثيماتها إنسانياً، فإنّها مع ذلك نصّ متموضع بالكليّة - زمانياً ومكانياً - في دنيا الكاتب. وبينما نرافق الرّاوي في رحلته عبر منعطفات حياته، فإننا نحن القراء نلج معه عالماً تسوده حالة عميقة من الانحطاط الذي عاشته فرنسا خلال مرحلة الاضطرابات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسية التي رافقت مرحلة قضيّة الضابط اليهوديّ «درايفوس»، كما صدمة الحرب العالمية الأولى، ونشهد معه تلك التحولات الطبقيّة العميقة لاندثار فضاء الأرستقراطيّة المتلألئ لكن الضحل، مقابل صعود البرجوازيّات المبتذلة بعدما أصبحت الثروة المكتسبة حديثاً كفيلة بتجاوز نبل المُحتد عندما يتعلق الأمر بالمكانة.
بدأ بروست ببلورة فكرة «البحث عن الزمن الضائع» في 1909، واستمر في العمل عليها حتى أجبره مرضه الأخير على ترك الكتابة في خريف 1922. وبعدما أنجز المجلّد الأوّل منها (في 1912) كان منتهى ظنّه أنها ستكون في 3 مجلدات تأخر ظهورها لبعض الوقت بعدما آلمته وفاة سكرتيره الخاص.
تطورت الحكاية لاحقاً بين يديه، فاستمر بإضافة مواد جديدة وتحرير السابق؛ لا سيّما خلال سنوات الحرب، حتى أصبحت 7 مجلدات، نشر 4 منها في حياته بداية من عام 1913. ومن اللّافت أن دور نشر فرنسيّة مرموقة حينها رفضتها، فاضطر لطبع المجلّد الأول منها على نفقته، ليتسابق الناشرون بعدها على حقوق نشر المجلدات الباقية، والتي توالى صدورها بالفرنسيّة حتى اكتملت عام 1927. وقد نشرت نسخة مكتملة محققة من العمل في 1954 تعد الآن النّسخة المرجعية.
ولد مارسيل بروست عام 1871 في ناحية أوتويل، بالقرب من باريس، لأب طبيب كاثوليكيّ بارز وأمّ من عائلة يهوديّة ثريّة. وتحصّل على إجازات جامعيّة في القانون والعلوم السياسية والأدب، وتأثر فكريّاً بالفلاسفة هنري بيرغسون (ابن عمه بالزواج) وبول ديجاردان، كما المؤرخ ألبرت سوريل، وخبر الحياة العسكريّة لفترة قبل أن يصبح ضيفاً معتاداً على صالونات مجتمع باريس المخملي الأكثر تميزاً. وقد تعاطى الكتابة بداية من خلال قصص قصيرة نشرها في مجلات العاصمة الفرنسيّة (1892) قبل أن يعبر إلى عالم الرواية من خلال رواية أولى كانت سيئة البناء لكنّها حملت إرهاصات ولادة موهبة عظيمة، ثمّ محاولات أخرى ساخرة حاكى فيها كتابات روائييه المفضلين بلزاك وفلوبير ورينان وسان سيمون... وغيرهم. لكنّ تجربته شُحذت بعدما اكتشف كتاب «النقد الفنيّ» لجون راسكين الذي قلب حياته رأساً على عقب، وغيّر من سلوكه ونظرته للحياة وللفن وللأدب، حتى كتب عن ذلك: «لقد استعاد الكون فجأة في عيني قيمة لا حصر لها». وقد اشتدت عليه تالياً حالة الربو التي رافقته منذ صغره، وتراجعت صحته، فانسحب من الحياة الاجتماعيّة وانصرف بكليته للبحث عن زمنه الضائع؛ تحفته الخالدة، قبل أن يقضي عليه الالتهاب الرئوي بعدما وضع بالكاد قدمه الأولى على قمّة المجد الأدبيّ.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.