رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

ثلاثون عاماً بين الطبعتين

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار
TT

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

صنّف المستشرق الألماني يوهان فك (1894-1974) كتاباً بالألمانيّة، ترجمته «العربيَّة دراسات في اللُّغة واللهجات والأساليب». قام بالترجمة مدرس كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول عبد الحليم النَّجار (ت: 1964)، ونُشر بالقاهرة: مكتبة الخانجيّ (مطبعة دار الكتاب العربيّ) 1951، وبعد أكثر مِن ثلاثين عاماً ظهرت ترجمة ثانية للكتاب نفسه، قام بها أستاذ العلوم اللُّغوية في كلية الآداب- جامعة عين شمس الدكتور رمضان عبد التَّواب (1930- 2001)، صدرت عن مكتبة الخانجي نفسها (1980).

لا قيمة لترجمة ثانية لأي كتاب، إلا يكون قد استجد أمرٌ ما، فيما يخص النّص، أو ما توصل له مترجم الكتاب الثّاني مِن مصادر وروايات وشروحات، تكون قد فاتت المترجم الأول، ومِن المفروض أن تكون الترجمة الجديدة بمعزل عن الأولى، وإذا كان الأمر تصحيحاً أو تصويباً، في بضع كلمات، فلا يحتاج النص إلى ترجمة جديدة، وإعادة الجهد بلا طائل، عند ذلك يُكتفى بمقال ناقد، أو إصدار جديد للترجمة نفسها مع مقدمة، يشار فيها إلى النواقص إن وجدت.

هذا، وبعد 64 عاماً مضت على صدور ترجمة عبد الحليم النَّجار أُعيد نشرها كاملة مِن قبل المركز القوميّ للترجمة بالقاهرة (2014)، مع مقدماتها، وكانت مصدرة بقلم الباحث أحمد أمين بك (ت: 1954)، وتقديم محمَّد يوسف موسى، وواضح أن طبعة المركز القومي كانت مصورة، طبق الأصل، عن الطَّبعة الأولى، ولم يُشر فيها لترجمة رمضان عبد التّواب، لا مِن قريب ولا مِن بعيد، أي لم تؤخذ ترجمته بعين الاعتبار، وما ادعاه مِن إضافات في ترجمته، على أنها ترجمة جديدة، وهي ليست كذلك.

يقول رمضان عبد التّواب في مقدمته لترجمته المزعومة، معترفاً بسبق النّجار إلى ترجمة الكتاب، فانتظر حتّى نفدت طبعة (1951)، ولما فكر النَّاشر في إعادة طبع الكتاب، عرض عليه عبد التَّواب «إعادة الترجمة مِن جديد، مضيفاً تعليقات أستاذي، شيخ المستشرقين في الوقت الحاضر، بروفسور شبيتالر، رئيس معهد اللُّغات السَّاميَّة بجامعة ميونيخ، وما تجمع لدي مِن ملاحظات على مادة الكتاب، وقضاياه، وتصحيح شيء من التَّصحيف والتَّحريف، وبعض الأخطاء التي وقعت في ترجمته، فرحب بالفكرة ترحيباً بالغاً، وكان لتشجيعه وغيرته العظيمة على العربيَّة وتراثها، أكبر الأثر في هذا الكتاب، بالصورة التي هو عليها» (فك، العربيّة دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة رمضان عبد التواب 1980).

ثم أردف قائلاً لإظهار جهده وشقاه في الترجمة: «والكتاب دائرة معارف واسعة، يحتاج مِن مترجمه إلى الكثير مِن الصّبر والجهد، ومراجعة الكثير مِن المصادر، لتحقيق هذا النَّص أو ذاك، مِن نصوصه الكثيرة، الممتدة عبر عصور العربيَّة» (نفسه).

إذا كان لا بد مِن قول ذلك، فهي بالأحرى مِن حقّ مترجم الكتاب الأول عبد الحليم النَّجار، لا مَن أخذ النص المترجم كاملاً، حتَّى كان الشبه بين الترجمتين شبه الغراب بالغراب، مثلما يُقال، لا تصحيح ولا مراجعة، فالمصادر، التي ذكر عبد التّواب أنه بذل جهداً بمراجعتها، هي المصادر نفسها التي وصل إليها النّجار، ووضعها في حواشي ترجمته للكتاب.

ليست ترجمة أن يقلب مفردة «ممارسة» ويجعلها «احتكاك»، أو يستبدل «العلاقات» ويستخدم «الروابط»، فهذا ليس جهداً ولا ترجمة ولا إضافةً، أو يستبدل «نظرة خاطفة» ويستخدم عبارة «عود على بدء»، فهذا لإبعاد شبهة الانتحال عنه. هذا التغيير اللفظي الذي لا يؤثر على النّص، كان من رمضان عبد التّواب أن يُقدم الطبعة الجديدة، ويشير إليها، إذا كان يحسب ذلك على مستوى مِن الخطورة، وهو ليس كذلك، لا أن يستولي على الكتاب كاملاً ويجعل نفسه مترجماً، فإذا كان الجديد الذي أضافه عبد التّواب هو تعليقات المستشرق شبيتالر، وهذه لا تستوجب انتحال الترجمة كاملة، والأداء أنه راجع المصدر، وهي التي راجعها واثلتها النّجار نفسه.

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951) وبُعد عهدها، فالزَّمن كان 30 عاماً بين الطبعتين؛ والغريب ليس هناك من تصدى لفضح هذا الانتحال، مِن الوسط الأدبي والأكاديميّ، مع أنه كان انتحالاً مفضوحاً تاماً، وورط رمضان عبد التّواب نفسه في المقدمة، فقد أظهر نفسه المترجم المصوب لترجمة النَّجار، لا مستخدم نصوصه نفسها.

نبدأ مِن «التّمهيد»: ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 13): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة النَّجار (الصَّفحة: 1): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 17): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الإسلامي الأول، إلى خارج حدودها القديمة، في مواطن لغوية أجنبية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 6): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الأول، إلى خارج حدود الوطن العربي، في مواطن لغوية أجنبية».

نظرة خاطفة (عبد التواب)/ عود على بدء (النَّجار)

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 238): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام في مراحل الانحلال اللغوي التي بدأت بظهور السلاجقة، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 230): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام لمراحل الانحلال في تاريخ اللغة العربية أي المرحلة التي بدأت بظهور دولة السلجوقيين، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 234): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 242): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951)

ملحق مادة: ل ح ن، ومشتقاتها:

ترجمة عبد التواب (الصفحة: 243): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 235): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

بعد ذلك تأتي ترجمة عبد التّواب بالفهرس «فهرس تحليلي لموضوعات الكتاب»، عنوان النَّجار نفسه، والفرق أن عبد التواب جعله في آخر الكتاب (الصفحة: 256)، أما النّجار فكان قد وضعه في مقدمة كتابه، وهذا هو مكانه المناسب، لكن المهم نُقل حرفياً.

ختاماً، لقد استولى عبد التّواب على جهد عبد الحليم النّجار حرفياً، وإذا كان قد غيّر وبدل هنا وهناك فلا يزيد على كلمات وعنوان. يبدو مضحكاً للقارئ ومؤلماً للنجار، ما ورد في الغلاف الأخير من طبعة ترجمة عبد التَّواب (1980) الآتي: «وهذه الترجمة الجديدة، تمتاز بالدقة وكثرة التعليقات والتصحيحات والمناقشات لبعض القضايا المهمة في الكتاب»، ولم يزد صاحب الترجمة (الجديدة) شيئاً مذكوراً، غير نشر كلمة المستشرق شبيتالر، وهي 4 ورقات فقط، ووضع قائمة بمصادر مؤلف الكتاب، الواردة في الهوامش، استغنت عن ذكرها طبعة 1951.


مقالات ذات صلة

أنسي الحاج... الصمت الناطق

كتب أنسي الحاج

أنسي الحاج... الصمت الناطق

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

فؤاد مطر يوثق مقالاته وحواراته في 17 مجلداً

وثَّق الزميل فؤاد مطر أحد كتَّاب الرأي في صحيفة «الشرق الأوسط» مقالاته وحواراته على مدى 55 عاماً بدءاً بصحيفة «النهار» اللبنانية وختاماً بصحيفة «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «من الزمن الصعب»... مأساوية الواقع وسخرية الحياة

«من الزمن الصعب»... مأساوية الواقع وسخرية الحياة

تمزج قصة «من الزمن الصعب» للدكتور المعماري نبيل عيسى أبو دية بين أحداث الواقع ومأساويته وسخرية الحياة، لا سيما حين يتعلق الأمر بالهجرة

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

يعيش المعرض الذي ينطلق غداً ظاهرة لافتة تتمثل بوجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها.

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.