توثِّق رواية «ملصقات بيروت» للروائي والكاتب المسرحي العراقي ماجد الخطيب، الصادرة حديثاً، تجربةً مريرةً للإنسان العراقي في فترة الحرب العراقية - الإيرانية. فمن خلال شخصية «مالك الحزين»، تأخذنا الرواية في رحلة مليئة بالمخاطر والمعاناة، حيث يتجسَّد الصراع بين الرغبة في الهروب من الموت والحاجة إلى البقاء على قيد الحياة. وما بين ذلك، تطرح موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية، في زمنٍ كان فيه الوطن جحيماً لا يُطاق.
هروب بلا رجعة
حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً، ويظل الأمل في العودة قائماً مهما كانت المشاق. أما في حالة «مالك الحزين»، فالسفر ليس مغامرةً، بل هروب بلا رجعة. إنه يترك خلفه وطنه الممزق بالحرب والقمع، هو الذي فُصل من كلية الطب وتحوَّل إلى جندي هارب، متحدياً قرار تجميد الجنود المنتمين للحزب الشيوعي العراقي، مما يجعل مصيره الإعدام المؤكد.
«ربما كان المسافر الوحيد بلا حقائب... أصبحت الحقائب رمز السفر والهجرة والمنفى، لكن في حالته كانت رمز خلاص من مستقبل أسود ينتظره في أرض السواد» (ص7).
عتبة العنوان
جاء عنوان الرواية «ملصقات بيروت» ليحمل في طياته دلالات عميقة، حيث يرمز إلى تحول الإنسان إلى مجرد ملصق على جدران مدينة غارقة في الفوضى والحرب. وقد تجسَّد ذلك في مصير خالد العراقي، الذي يصبح مجرد ملصق بعد اغتياله، ليعكس هشاشة الوجود الإنساني في واقع عنيف ومضطرب. ملصق سرعان ما تغطيه ملصقات شهداء جدد في بيروت.
وكان خالد العراقي قد اغتيل بكاتم صوت على أيدي أزلام النظام العراقي، ضمن سلسلة اغتيالات نفَّذتها المخابرات العراقية وجبهة فلسطينية بعثية ضد المعارضين العاملين في صفوف المقاومة الفلسطينية ببيروت، ومن ضمنهم مالك الحزين.
تتسم الرواية بطابع سردي يميل إلى الواقعية، حيث يقترب النَصُّ من جنس المذكرات والسيرة الروائية أكثر من كونه عملاً روائياً تقليدياً، إذ يتحدَّث الكاتب عن تجربة شخصية محاطة بمخاطر الموت، موثِّقاً رحلته من بغداد إلى بيروت في ظل ظروف استثنائية. والرواية مليئة بالأسماء الحقيقية لشخصيات سياسية وثقافية معروفة.
بيروت الحرب... والحياة
تدور أحداث الرواية في بيروت عام 1979، في زمن الحرب الأهلية اللبنانية. ويتنقل السرد بين الشوارع، والأزقة الضيقة، والمقرات الفلسطينية، والحانات، والمطاعم، ودور السينما ذات الطابع الفريد. ويمتزج وصف الأماكن بتفاصيل دقيقة تعكس حالة الفوضى والدمار:
«فاجأتني دور السينما ببيروت بأناقتها... الذهاب إلى سينمات بيروت، حيث تُعرَض أفلام هوليوود الجديدة بسرعة لا تتناسب مع فوضى الوضع» (ص42).
وتتجلى تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية في الرواية من خلال مشاهد القصف والاشتباكات ورصاص القناصين. ومع ذلك، يعبِّر الكاتب بأسلوب ساخر عن مشاعر الاغتراب والموت المتربص في كل زاوية. وتبرز السخرية السوداء في مواقف عدة، منها انتشاء الرفاق بأغاني فيروز في وقت تسيطر فيه الفوضى والخراب.
العواطف والمشاعر المرتبكة
يكسر ماجد الخطيب التابوهات، فيتحدَّث بصراحة عن علاقاته وتجاربه الشخصية، مما يضفي بعداً واقعياً على الرواية، كما أنها في الوقت نفسه تُوظف الأحلام كآلية دفاعية في مواجهة الواقع المرير، حيث يتخيل البطل نفسه طائراً مثقلاً بحقائب السفر، رمزاً للتيه والضياع:
«أكذب على نفسي وأقول إني أعيش في المهجر بأمان... أكذب على نفسي...أقول دائماً إني بخير في المنفى، وأكذب وأقول إني لا أفتقد الأهل والأحبة... أكذب على نفسي وأقول إني أعيش في المنفى بأمان! أكذب على نفسي وأمني النفس بالعودة إلى العش الأول».
في «ملصقات بيروت» يتجلى الصراع بين البقاء والهروب، بين الوطن والمنفى. إنها ليست مجرد سرد لتجربة ذاتية، بل هي توثيق لجيل من المنفيين الذين عاشوا بين الموت والحياة، وعذبتهم أسئلة الهوية والانتماء، والمآسي الإنسانية التي تمتد جذورها في تاريخ العراق المضطرب.
صدرت الرواية عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وتقع في 148 صفحة من القطع المتوسط.