رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

ثلاثون عاماً بين الطبعتين

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار
TT

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

رمضان عبد التَّواب ينتحل ترجمة عبد الحليم النَّجار

صنّف المستشرق الألماني يوهان فك (1894-1974) كتاباً بالألمانيّة، ترجمته «العربيَّة دراسات في اللُّغة واللهجات والأساليب». قام بالترجمة مدرس كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول عبد الحليم النَّجار (ت: 1964)، ونُشر بالقاهرة: مكتبة الخانجيّ (مطبعة دار الكتاب العربيّ) 1951، وبعد أكثر مِن ثلاثين عاماً ظهرت ترجمة ثانية للكتاب نفسه، قام بها أستاذ العلوم اللُّغوية في كلية الآداب- جامعة عين شمس الدكتور رمضان عبد التَّواب (1930- 2001)، صدرت عن مكتبة الخانجي نفسها (1980).

لا قيمة لترجمة ثانية لأي كتاب، إلا يكون قد استجد أمرٌ ما، فيما يخص النّص، أو ما توصل له مترجم الكتاب الثّاني مِن مصادر وروايات وشروحات، تكون قد فاتت المترجم الأول، ومِن المفروض أن تكون الترجمة الجديدة بمعزل عن الأولى، وإذا كان الأمر تصحيحاً أو تصويباً، في بضع كلمات، فلا يحتاج النص إلى ترجمة جديدة، وإعادة الجهد بلا طائل، عند ذلك يُكتفى بمقال ناقد، أو إصدار جديد للترجمة نفسها مع مقدمة، يشار فيها إلى النواقص إن وجدت.

هذا، وبعد 64 عاماً مضت على صدور ترجمة عبد الحليم النَّجار أُعيد نشرها كاملة مِن قبل المركز القوميّ للترجمة بالقاهرة (2014)، مع مقدماتها، وكانت مصدرة بقلم الباحث أحمد أمين بك (ت: 1954)، وتقديم محمَّد يوسف موسى، وواضح أن طبعة المركز القومي كانت مصورة، طبق الأصل، عن الطَّبعة الأولى، ولم يُشر فيها لترجمة رمضان عبد التّواب، لا مِن قريب ولا مِن بعيد، أي لم تؤخذ ترجمته بعين الاعتبار، وما ادعاه مِن إضافات في ترجمته، على أنها ترجمة جديدة، وهي ليست كذلك.

يقول رمضان عبد التّواب في مقدمته لترجمته المزعومة، معترفاً بسبق النّجار إلى ترجمة الكتاب، فانتظر حتّى نفدت طبعة (1951)، ولما فكر النَّاشر في إعادة طبع الكتاب، عرض عليه عبد التَّواب «إعادة الترجمة مِن جديد، مضيفاً تعليقات أستاذي، شيخ المستشرقين في الوقت الحاضر، بروفسور شبيتالر، رئيس معهد اللُّغات السَّاميَّة بجامعة ميونيخ، وما تجمع لدي مِن ملاحظات على مادة الكتاب، وقضاياه، وتصحيح شيء من التَّصحيف والتَّحريف، وبعض الأخطاء التي وقعت في ترجمته، فرحب بالفكرة ترحيباً بالغاً، وكان لتشجيعه وغيرته العظيمة على العربيَّة وتراثها، أكبر الأثر في هذا الكتاب، بالصورة التي هو عليها» (فك، العربيّة دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة رمضان عبد التواب 1980).

ثم أردف قائلاً لإظهار جهده وشقاه في الترجمة: «والكتاب دائرة معارف واسعة، يحتاج مِن مترجمه إلى الكثير مِن الصّبر والجهد، ومراجعة الكثير مِن المصادر، لتحقيق هذا النَّص أو ذاك، مِن نصوصه الكثيرة، الممتدة عبر عصور العربيَّة» (نفسه).

إذا كان لا بد مِن قول ذلك، فهي بالأحرى مِن حقّ مترجم الكتاب الأول عبد الحليم النَّجار، لا مَن أخذ النص المترجم كاملاً، حتَّى كان الشبه بين الترجمتين شبه الغراب بالغراب، مثلما يُقال، لا تصحيح ولا مراجعة، فالمصادر، التي ذكر عبد التّواب أنه بذل جهداً بمراجعتها، هي المصادر نفسها التي وصل إليها النّجار، ووضعها في حواشي ترجمته للكتاب.

ليست ترجمة أن يقلب مفردة «ممارسة» ويجعلها «احتكاك»، أو يستبدل «العلاقات» ويستخدم «الروابط»، فهذا ليس جهداً ولا ترجمة ولا إضافةً، أو يستبدل «نظرة خاطفة» ويستخدم عبارة «عود على بدء»، فهذا لإبعاد شبهة الانتحال عنه. هذا التغيير اللفظي الذي لا يؤثر على النّص، كان من رمضان عبد التّواب أن يُقدم الطبعة الجديدة، ويشير إليها، إذا كان يحسب ذلك على مستوى مِن الخطورة، وهو ليس كذلك، لا أن يستولي على الكتاب كاملاً ويجعل نفسه مترجماً، فإذا كان الجديد الذي أضافه عبد التّواب هو تعليقات المستشرق شبيتالر، وهذه لا تستوجب انتحال الترجمة كاملة، والأداء أنه راجع المصدر، وهي التي راجعها واثلتها النّجار نفسه.

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951) وبُعد عهدها، فالزَّمن كان 30 عاماً بين الطبعتين؛ والغريب ليس هناك من تصدى لفضح هذا الانتحال، مِن الوسط الأدبي والأكاديميّ، مع أنه كان انتحالاً مفضوحاً تاماً، وورط رمضان عبد التّواب نفسه في المقدمة، فقد أظهر نفسه المترجم المصوب لترجمة النَّجار، لا مستخدم نصوصه نفسها.

نبدأ مِن «التّمهيد»: ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 13): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة النَّجار (الصَّفحة: 1): «لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيَّة، أبعد أثراً في تقرير مصيرها مِن ظهور الإسلام. فمن العهد - قبل أكثر مِن 1300 عام، عندما رتل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن على بني وطنه بلسان عربي مبين».

ترجمة عبد التّواب (الصفحة: 17): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الإسلامي الأول، إلى خارج حدودها القديمة، في مواطن لغوية أجنبية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 6): «وقد بدأ التّطور إلى العربيَّة المولدة حينما انتقلت العربيّة بعد وفاة الرسول مباشرة عن طريق الغزوات الكبرى في العهد الأول، إلى خارج حدود الوطن العربي، في مواطن لغوية أجنبية».

نظرة خاطفة (عبد التواب)/ عود على بدء (النَّجار)

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 238): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام في مراحل الانحلال اللغوي التي بدأت بظهور السلاجقة، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 230): «جاء السيل المغولي، الذي أصاب في الصميم بلداناً، كان لها التصدير في قيادة ركب الثقافة والمدنية في العالم الإسلامي، والذي اكتسح خلافة بغداد (656/1258) فأكمل حلقة الختام لمراحل الانحلال في تاريخ اللغة العربية أي المرحلة التي بدأت بظهور دولة السلجوقيين، وبهذا تقطعت الخيوط الأخيرة من الثقافة التليدة المتوارثة في الأقاليم التي تغلغل فيها المغول».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 234): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 242): «وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل فستحفظ أيضاً بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية، ما بقيت هناك مدنية إسلامية».

يبدو أن عبد التَّواب استغل جهل النّاشر في الترجمة، أو أراد تسويقاً جديداً للكتاب، وثانياً وفاة المترجم الأول، وثالثاً نفود الطبعة الأولى (1951)

ملحق مادة: ل ح ن، ومشتقاتها:

ترجمة عبد التواب (الصفحة: 243): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 235): «يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى. بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية الإسلامية».

ترجمة عبد التَّواب (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

ترجمة النَّجار (الصفحة: 255): «هذا البيت إلى البيتين المشار إليهما من قبل، يبدو - فيما أعلم - أنه أقدم الشواهد على استعمال كلمة، في معنى الخطأ اللغوي».

بعد ذلك تأتي ترجمة عبد التّواب بالفهرس «فهرس تحليلي لموضوعات الكتاب»، عنوان النَّجار نفسه، والفرق أن عبد التواب جعله في آخر الكتاب (الصفحة: 256)، أما النّجار فكان قد وضعه في مقدمة كتابه، وهذا هو مكانه المناسب، لكن المهم نُقل حرفياً.

ختاماً، لقد استولى عبد التّواب على جهد عبد الحليم النّجار حرفياً، وإذا كان قد غيّر وبدل هنا وهناك فلا يزيد على كلمات وعنوان. يبدو مضحكاً للقارئ ومؤلماً للنجار، ما ورد في الغلاف الأخير من طبعة ترجمة عبد التَّواب (1980) الآتي: «وهذه الترجمة الجديدة، تمتاز بالدقة وكثرة التعليقات والتصحيحات والمناقشات لبعض القضايا المهمة في الكتاب»، ولم يزد صاحب الترجمة (الجديدة) شيئاً مذكوراً، غير نشر كلمة المستشرق شبيتالر، وهي 4 ورقات فقط، ووضع قائمة بمصادر مؤلف الكتاب، الواردة في الهوامش، استغنت عن ذكرها طبعة 1951.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.