التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

امتدحوا الأنوثة والجمال وأعطوا هويتهم للقرون الوسطى الأوروبية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.


مقالات ذات صلة

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)
ثقافة وفنون «إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

«إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

تتناول رواية «إنهم حقاً رجال شرفاء» الصادرة أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتبة ابتسام شوقي قصة سيدة عجوز تعيش وحيدة معزولة عن الآخرين،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري
TT

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس إلى غاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدأت بالتذكير بأن «الأولوية هي لإنقاذ الأرواح البشرية قبل القطع الأثرية، لكن مساعينا انطلقت من الرغبة في إعادة الاعتبار لتراث غزة الذي طوته المأساة، نريد أن يرى العالم الوجه الآخر لغزة، المدينة الحضارية الغنية بتراث عمره أكثر من خمسة آلاف عام».

هذا الحدث الذي يسعى إلى إحياء الذاكرة الثقافية للمنطقة وإبراز عمقها الحضاري الذي طمرته الحرب هو الأول من نوعه في فرنسا بشهادة رئيسه جاك لانغ، وهو يعرض أكثر من 130 قطعة أثرية تشهد على تاريخ غزة الطويل الممتد على مدى ثماني حضارات مختلفة. المجموعات المعروضة مستمدة من التنقيبات الأثرية لفرق فرنسية وفلسطينية عملت معاً في غزة منذ 1995 بإشراف عالم الآثار الفرنسي القس الدوميناكي جان باتيست همبير (84 سنة). أقدمها تعود إلى العهد البرونزي، أي 3200 سنة قبل الميلاد، وأحدثها من العهد العثماني في نهاية القرن التاسع عشر: منها التماثيل والأحجار والجرار والقطع النقدية، ومنها ما يحمل قيمة تاريخية كبيرة كوعاء فخاري يعود إلى أربعة آلاف عام وفسيفساء بيزنطية تعود إلى القرن السادس وتمثال لأفروديت كشاهد على التأثيرات الهلنستية في المنطقة.

المعرض رفع النقاب أيضاً عن القصة المذهلة لهذه القطع الأثرية التي حلّت في باريس قادمة من سويسرا، حيث ظلّت عالقة في منطقة جنيف الحرة لمدة تناهز 17 سنة في انتظار عودتها إلى موطنها الأصلي بعد أن عُرضت في متحف جنيف في 2006. القطع التي لم يعرض منها في باريس سوى 150 من أصل 529 لم تتمكن من العودة إلى غزة بسبب الحصار وعرقلة السلطات الإسرائيلية، يومية «لوتون» السويسرية كانت قد وصفتها بـ«الكنوز التي أصبحت عبئاً»، وكان مصممو المعرض قد اختاروا عرضها في قواعد معدنية مثبتة على عجلات وكأنها مستعدة للرجوع إلى الوطن في أي لحظة في مفارقة محزنة بين النفي القسري الذي تعرضت له هذه الكنوز الأثرية التي تنتظر في المنفى منذ 17 سنة.

تضمن المعرض أيضاً جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد داخل دير القديس هيلاريون، الذي شُيّد عام 329 ميلادياً، ويُعد من أقدم الأديرة في الشرق الأوسط، وقد أُدرج على قائمة الممتلكات الثقافية المحمية دولياً من قبل «اليونيسكو» في يوليو (تموز) 2024. وإن كان من الصعب إجراء جرد دقيق لكل المعالم الأثرية التي تعرضت للدمار منذ بداية الحرب على غزة إلا أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونيسكو) رصدت استناداً إلى صور الأقمار الاصطناعية الأضرار التي لحقت بأكثر من 94 موقعا أثريا في القطاع.

من هذه المعالم المسجد العمري الكبير، الذي شُيّد عام 700 ميلاديا على أنقاض كنيسة بيزنطية، وتحول لاحقاً إلى كنيسة في عهد الصليبيين ثم أعيد مسجداً في زمن المماليك، قبل أن يتوسع في الحقبة العثمانية، حيث تعرض للقصف مراراً، وكان آخرها في نوفمبر عام 2023، حيث تعرضت مئذنته لأضرار جسيمة، إضافة إلى متحف قصر الباشا الذي يضم قطعاً من العهود اليوناني والروماني والبيزنطي والإسلامي، وتعود بنيته إلى القصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، ويعرف أيضا باسم «قلعة نابليون» لأن نابليون بونابرت أقام فيه ثلاثة أيام خلال رحلته لمصر. وقصفته قوات الاحتلال الإسرائيلي ودمرت أجزاء كبيرة منه في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إضافة إلى تدمير الكنيسة البيزنطية وكنيسة القديس برفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم.

وإن كانت الأولوية منذ بداية الحرب هي لإنقاذ الأرواح البشرية إلا أن كثيرا من المبادرات عرفت النور في محاولة لإنقاذ التراث أيضاً. فقد تم نقل مجموعات من متحفين إلى مناطق آمنة داخل قطاع غزة بدعم مالي من التحالف الدولي لحماية التراث (Aliph) الذي خصّص لها مبلغ 602 ألف يورو، كما تم أيضاً تدريب حوالي ستين محترفاً (عبر الإنترنت) من أجل التدخل الطارئ لحماية القطع أو استخراجها من الأنقاض. تشرح السيدة الودي بوفار المشرفة على معرض «كنوز غزة»: «لا نستطيع التدخل قبل وقف التدخل العسكري وترتيب الوضع الإنساني، وأول ما يمكن القيام به هو تأمين المواقع من أخطار الألغام ثم تفقّد حجم الأضرار والبدء في عمليات الجرد والتوثيق لإعادة بناء المواقع وترميمها».

وقد لاحظ رينيه إيلتر عالم الآثار في جمعية الطوارئ الدولية ومدير برنامج الحفاظ على دير سانت هيلاريون أن سكان غزة واعون بقيمة تراثهم وضرورة حمايته وهو مصدر فخر كبير، حيث أقيم مخيم للاجئين في محيط موقع دير سانت هيلاريون لكن السّكان لم يسعوا أبدا إلى دخوله، متهماً في نفس الوقت الجيش الإسرائيلي بسرقة المجموعات التي كان يحتويها متحف الباشا، حيث أردف: «أفضل القطع كانت في هذا المتحف، بعد القصف ذهب بعض زملائنا الفلسطينيين لتفقد الوضع فاكتشفوا أن الجنود الإسرائيليون قد فتحوا الصناديق وأخذوا منها بعض المقتنيات».

وكان مدير الآثار الإسرائيلي ايلي اسكوسيدو قد نشر تسجيلاً يظهر جنودا إسرائيليين محاطين بأوان فخارية قديمة من مستودع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار بعد اقتحامه، مما أثار ردود أفعال منددة بسرقة التراث الفلسطيني.

إن قصة اكتشاف التراث التاريخي لغزة تعود إلى السنوات التسعين من القرن الماضي، فبعد إمضاء معاهدة أوسلو قامت السلطات الفلسطينية بإنشاء دائرة الآثار التي كانت تعمل بالتعاون مع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار في التنقيب عن الآثار، وأسفرت الأبحاث عن العثور على الكثير من القطع الأثرية الثمينة، هذه الجهود لقيت أيضاً مساندة من قبل رجل الأعمال والمجمع الفلسطيني جودت الخضري الذي قام بشراء آلاف القطع الأثرية لحمايتها من التهريب والتجارة، بعضها كان معروضاً في «فندق المتحف» الذي أسّسه في 2008 وكان يضم قطعا نادرة من العصور الكنعاني والروماني والإسلامي قبل أن يدمره الاحتلال الإسرائيلي بالكامل في الـ3 من نوفمبر 2023.