هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

الفائزة بجائزة الشيخ زايد تقول إن مرارة السنوات علمتها ألا تدجن هجرتها

هدى بركات
هدى بركات
TT

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

هدى بركات
هدى بركات

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود، ولم تكتب أعمالها الروائية باللغة الفرنسية التي تجيدها بطلاقة. ظلت موقنةً دائماً أن قلبها لا يزال معلقاً هناك حيث بيروت، مدينة السحر ورعشة القلب مهما نالت الحرب من قسماتها الجميلة.

فازت أخيراً روايتها «هند أو أجمل امرأة في العالم» بجائزة «الشيخ زايد للكتاب». ومن أبرز أعمالها «أهل الهوى»، «بريد الليل»، «حجر الضحك»، «حارث المياه».

«الشرق الأوسط» حاورتها حول روايتها الفائزة، وقضايا الغربة والهجرة وهموم الكتابة.

* في روايتك الأحدث «هند أو أجمل امرأة في العالم»، بدا العنوان للبعض وكأنه ينطوي على شيء يشبه الارتباك أو الحيرة، كأنك كنت حائرةً بين عنوانين هما «هند» وعنوان آخر هو «أجمل امرأة في العالم»، ثم قررت في النهاية الجمع بينهما في عنوان واحد... كيف ترين الأمر؟

- لعلّ هذه الرواية الأخيرة هي الوحيدة التي لم أتردّد قبل وضع عنوان لها. ولا أعتقد أنّ الالتباس في الجمع الذي تشيرين يؤكد على محتوى النصّ في عمق ما ذهب إليه. و«أو» في هذا العنوان تدلل على الازدواجية، وإلى لعبة المرايا التي تنتظم السرد بكامله، هند وأختها هنادي، الجمال والقبح، الوهم وحقائق الذاكرة، إلى آخره.

أما أن يرى البعض في ذلك «ارتباكاً وحيرةً»، كما تقولين، فهذا يعزّز خياري. لا أظن أن على العناوين أن تكشف عن دلالات مباشرة. هذا إلى جانب اعتقادي أن هنالك دائماً «البعض»، وهذا من حقّ القارئ ولا يزعجني أبداً.

* كيف تختارين عناوين أعمالك عادةً، ما الذي تراعينه فيها ومتى تشعرين أنك موفقة في هذا العنوان أو ذاك؟

- لا أعتقد أنّي موهوبة في وضع عناوين رواياتي. أقلّه فيما عدا الرواية الأخيرة، أو ربّما بالنسبة لروايتي «أهل الهوى»، لا أستطيع القول إنّي راضية عن مجمل هذه العناوين. أتردّد كثيراً، وغالباً أضع العنوان تحت ضغط الطباعة والنشر، أي بعد الانتهاء من كتابة النصّ الروائي. والحقيقة أنّي لا أعرف إن كان عنوان ما ناجحاً أم لا.

* لو عاد بك الزمن إلى الوراء، هل كنتِ تغيرين عنواناً قديماً لك؟

- ربما، لا أعتقد. لو افترضنا أنّي أستطيع ذلك، فما لم أنجح فيه في الماضي لن أضمن نجاحي فيه اليوم! روايتي «حجر الضحك» مثلاً أجد أنّ عنوانها معقّد، لكن أحداً ممّن استفتيت لم يوافقني الرأي.

* يحكي النص عن طفلة ذات جمال صاعق لكنها أصيبت بمرض نادر أدى إلى تشوه ملامحها بشكل صادم. هناك من ذهب إلى أن البطلة ترمز هنا لبيروت، كيف تستقبلين تلك المقاربة؟

- الحقيقة أني لا أخطّط لشيء قبل الشروع في الكتابة. لا للدفاع عن نظرية ولا حتى لبناء الشخصيات ودفعها إلى مصائر محتومة. ليست هناك «قناعات»، أو أنّ هناك ما أنوي أن أبرهن على صحّته أو إثبات أحقيّته. أنا أسير في الكتابة مدفوعة بـ«صوت» الشخصية التي ستروي حكايتها. أنصت إليها. لكنّ كلّ ذلك قد يأتي من هاجس ما، قد أكتشفه بعد الكتابة.

لم يأت التشوّه على بيروت فقط. بل على مدننا العربية كافّة، ولا بدّ أن ذلك آلمني إلى حدّ كبير. ففي حين بالغنا كثيراً في التغنّي بجمال مدننا، مدينتنا، وكل لبنان، ولم نتقبّل ما فعلت أيدينا ببلداننا، فضّلنا التنصّل واستيهام الجمال لعدم قدرتنا على تحمّل المسؤولية أو على تدبير ذلك الشعور المرّ بالذنب. أو أنّنا، عند مصيبة ما أو كارثة ما، بالغنا في التفجّع والنياحة والعويل و«تشحير» الوجه، تقريباً للسبب نفسه. لا بدّ أنّي كنت أهجس بكلّ ذلك. فأنا، كما ذكرت لك، لا أعرف تماماً ما الذي يدفعني إلى الكتابة.

* أيهما أخطر على النفس الإنسانية، تشوه الجسد أم تشوه الروح، وكيف تطرقتِ في أعمالك إلى النوع الثاني من التشوه؟

- أعتقد أن مقاييس الجمال والقبح، التألّق والتشوّه هي مقاييس مترجرجة ومتغيّرة باستمرار، وبالتالي فهي قد تنتهي بالركون داخل الذات الفرد ومرجعها هو ذاتها. فيحصل أن تكون حرّة من تلك التي يحدّدها «المجتمع» أو ما نجمع على تسميته الرأي العام أو التيّار الغالب أو الموضة. العزلة، أو الوقوع في الهامش قد يساعد على ذلك.

أمّا عن كيفية تطرّقي إلى التشوّه في رواياتي، فأنا أرى الآن بمناسبة سؤالك أنّه كان في صلب كتاباتي. أكان في النظرة إلى الذات أو في نظرة الآخرين إلى الشخصية الروائية، وأكان ذلك حقيقياً في حياة الشخصية أو متوهّماً. هذه على ما أعتقد من مكوّنات الدراميّة الحيّة في الكتابة الروائية.

ولكي نحاول تبسيط الأمور قليلاً سنقول إنّه عنف الحروب الأهلية المديدة، وعبورنا القلق عبر هذه الحقبة التي تشبه الزلازل البركانية، وانتفاء الحيّز «الإنساني» المشترك الآمن والعادل. لن نكون على جمال إن لم يكن الآخر يشبهنا ولو قليلاً. ابتعاد ذلك الآخر الذي يركن إليه قلب الإنسان هو الباعث على الهواجس بأنّ عناصر الجمال، في ما يعنينا ويحيط بنا آخذة بالتآكل. ولن نكون على جمال مستحق إن لم نكن كذلك في عيني الآخر، ولو قليلاً... هذا «الآخر» قد يكون حبيباً أو أمّاً أو مجتمعاً مختلفاً.

* أليس غريباً أن الهم اللبناني لا يزال يشكل هاجسك الأول والأخير، رغم إقامتك في باريس طوال تلك السنوات؟

- ما تقولين حقيقي بلا شك. الحرب الأهلية، تحديداً عنفها المديد أعاد تربيتي من جديد، ونظّم حياتي اليومية كما أفكاري. كأنّي أعدت اكتشاف العالم. وإلا فلم أكن لأترك بلدي أصلاً. كلّ أدوات الفهم، وكل المقولات والأدوات المعرفية فقدت صلاحيتها. لم تعد تنفع لا للعيش ولا للإدراك. الشرط البشري تغيّرت مفاهيمه، من التعريفات إلى آليّات الخلاص من الشقاء ومن آلام الوحشة.

هذا ما يحصل عادة بعد الحروب، أو الكوارث الكبرى. ما زال الأدب في الغرب مثلاً يستقصي ذيول الحربين العالميتين. ليس فقط في التأريخ، بل في ما فعلته الحربان في المجتمعات والنفوس. كأنّ ما حصل عصيّ على الفهم.

* بين بيروت التي رحلت عنها وباريس التي تقيمن بها... كيف تنظرين إلى ثلاثة عقود من الاغتراب؟

- حتى وقت قريب لم أكن مصدّقة هجرتي تماماً. كنت أستغرب حين أفتح نافذة غرفتي صباحاً أنني لا أطل على بيروت. لا أطيق سماء باريس الثقيلة الرمادية المطفأة. لا ألبس ما يقيني بردها القارس. لا أعتاد على تعقيد الأوراق الرسمية وشبه الرسمية التي لا تكتمل أبداً. لا آلف روائحها أو ناسها وأخاف من نهارها كما ليلها باستمرار، أنا القادمة من بلاد الرعب. نوع من الإنكار العنيف. كأنّ هناك من دفع بي بقوّة خارج بلادي غصباً عنّي. لكن مرارة السنوات علّمتني أنّي أبداً لن أدجّن هجرتي أو أتخلّص من بيروت. الغربة عاهة، ينبغي القبول بذلك. تدبيرها صعب لكن إنكارها أشدّ صعوبة. وينبغي القبول بأن الغربة ليست مسألة حدود جغرافيّة. المكان، مكاني على الأقلّ، ليس مشروطاً بوجودي الجسدي. لذا ربّما كل ما كتبت وأكتب يشير إلى بيروت ويعود إليها. ولعلّها حريّة مذهلة ألا تكون بالكامل لا هنا ولا هناك. الآن أقول إنّ إقامتي في باريس منذ أكثر من ثلاثة عقود لم تكن كلّها شقاءً ومرارةً، كما كنت أدّعي قبلاً. فلفرنسا عليّ فضل كبير أدركه الآن، أنا الغريبة التي لا تكتب حتى بلغتها.

* ترفضين مصطلح «أدب المهجر» لوصف إنتاج الأدباء العرب الذين يعيشون بالغرب وترين أنه قديم وغير دقيق، هل لديك توصيف «بديل»؟

- صحيح. أولاً لأن المسافة الفاصلة لم تعد عظيمةً بسبب ما وصلت إليه سهولة المواصلات والأسفار وسرعة التنقّل وعدم ارتفاع التكلفة. ثمّ إنّ «المهجر» كان هجراً حقيقياً للمكان الأوّل بما فيه اللغة والبيت. لذا كان الأدب المهجري أدباً «حنينياً»، و«نوستالجيا» يجمّل الماضي البعيد ويتمسّك به حباً وتعلّقاً ولو كان ذلك اختراعاً. الآن لم يعد «حب الوطن» أو حلم «العودة» إليه ماثلاً في الكتابات، في حين أن ملايين الناس تلقي بنفسها في البحار وتواجه الموت وتستدين من أجل الرحيل. رحيل بلا أيّ وعود أو أيّ إرادة بالعودة. تلك الملايين من البشر التي تسير في بلاد الله الواسعة لا تطلب سوى الابتعاد عن مكان شقاء وفقر ورعب وذلّ بلا حدود.

* رغم إجادتك للغة الفرنسية، فإن الكتابة بالعربية ظلت قرارك الحاسم الذي لا رجعة فيه، ألم تنشغلي بفكرة أن الكتابة بلغة الآخر قد تفتح الباب أمامك لتحقيق ما يسمى بـ«العالمية»؟

- والله، وبكل صدق، أنا لا أعلم ما هو تعريف «العالميّة» ولا الوصفات الناجعة للوصول إليها. يتهيّأ لي أن ولع بعض الكتّاب العرب بالترجمة كيفما كان وبأيّ شروط هو وراء وهم يسمّونه العالميّة. بعض الروائيين العرب ممّن أحبّ كثيراً لم يترجموا إلا قليلاً جداً، أو أن الترجمات لم تكن سبباً لانتشارهم في الغرب. أضرب لك مثالاً واحداً بالكاتب المصري محمد البساطي.

الكتابة بالعربية، ورغم أنّه صدرت لي نصوص مهمّة كتبتها بالفرنسية، تبقى لغة رواياتي وستبقى كذلك. الفرنسية ليست خياراً. باختصار شديد العربية هي لغتي، ولأنّي تركت بلدي والمنطقة العربيّة أتعلّق بالعربيّة أكثر، كأنّها ملاذ وبيت أخير أو أوّل.

* يؤكد كثيرون أن تجربة محفوظ في هذا السياق تبرهن على أن «المحلية تفتح الطريق للعالمية»، مستشهدين بتركيزه على «الحارة المصرية» في أعماله... برأيك، هل لا تزال تلك الصيغة فعالة في مخاطبة الأدب العربي للعالم؟

- مرّة أخرى لا أستطيع الإجابة، ولا أدري ما هو الناجع في مخاطبة العالم. ولا أعرف ما هي التوليفة التي قد تحمل الأدب العربي إلى العالميّة أو إلى جائزة نوبل. إننا مهتمّون بأمور كثيرة ونشغل أنفسنا بها كلزوم ما لا يلزم. كأنّ هناك العالم وهناك نحن وفي الوسط حفرة هائلة الاتساع لا نعرف موقعها أو مداها. هناك كتّاب عرب مشهورون يجهلون قواعد اللغة العربيّة البسيطة ويطمحون للعالمية وينتقدون تحيّز الغرب!

* تُرجمت أعمالك إلى العديد من اللغات الحية حول العالم، ما الذي تعنيه لك الترجمة عموماً؟

- كلّ ترجمة جديدة هي إضافة حياة أخرى للكتاب. تفتح على مجتمعات وحيوات أناس قد لا نعرف مطلقاً كيف نتشارك وإيّاهم إحساساً وهمّاً، أو ما الذي يفتح التجربة الإنسانيّة على آفاق رحبة تلغي الحدود الصارمة، الجغرافية والسياسية... إلخ، كيف نرى ذواتنا في الآخر. وكيف تمّحي عبر القراءة جروح أو إعاقات التاريخ والذاكرة. كلّ لغة جديدة هي حجرة جديدة في بيت الكاتب، ومدى إضافي إلى أفقه وروحه.

ثمّ إنّ الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لها طعم الفرحة المضاعفة، حيث نعرّف بأنفسنا عبر أجمل وأفعل الطرق.


مقالات ذات صلة

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

كتب رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

لمع اسم جوزيف صموئيل ناي جونيور، أحد أبرز المفكرين والممارسين الأميركيين في مجال العلاقات الدولية الذي غادر عالمنا هذا الأسبوع عن عمر يناهز 88 عاماً

ندى حطيط (لندن)
كتب «فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية

«فتيات الكروشيه»... قصص عن الوحدة بعيون أنثوية

تبدو العين الأنثوية مهيمنة في رصد التفاصيل الحياتية الصغيرة والتقاط أوجاع الروح المسكوت عنها في المجموعة القصصية «فتيات الكروشيه»

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر

تريستان وإيزولد يرسمان للعشق الفروسي مآله الحزين

قد تكون قصة تريستان وإيزولد (أو إيزولده) العاطفية التي ظهرت في فرنسا في القرن الثاني عشر إحدى أكثر الأساطير تعبيراً عن روح القرون الوسطى

شوقي بزيع
ثقافة وفنون شاهدان جنائزيان من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين

شاهدان جنائزيان من البحرين

ازدهر فن النحت الجنائزي بشكل كبير في جزيرة البحرين خلال القرون الميلادية الأولى، كما تؤكّد شواهد القبور العديدة التي خرجت في العقود الأخيرة من سلسلة من المدافن

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي

«الحب عربة مهترئة»... رواية تحاكم الماضي من منظور فلسفي

تتناول رواية «الحب عربة مهترئة»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب الجزائري أحمد طيباوي، تجربة رجل استقر على سرير المرض في إحدى مصحات العلاج.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

تريستان وإيزولد يرسمان للعشق الفروسي مآله الحزين

 مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
TT

تريستان وإيزولد يرسمان للعشق الفروسي مآله الحزين

 مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر
مشهد عاطفي من أوبرا «تريستان وإيزولده» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر

قد تكون قصة تريستان وإيزولد (أو إيزولده) العاطفية التي ظهرت في فرنسا في القرن الثاني عشر إحدى أكثر الأساطير تعبيراً عن روح القرون الوسطى، وعن حاجة الغربيين الذين أدمتهم الحروب الصليبية والأهلية إلى جرعة من الحب تربطهم بمعنى للحياة مغاير للعنف الدموي والأحقاد القاتلة. ومع ذلك فإن هذه الأسطورة التي غذتها روافد متعددة تراوحت بين الحب الأفلاطوني والعفة المسيحية والتراث الغنوصي الصوفي، وصولاً إلى الحب العربي العذري، التي بدأ بكتابتها الشاعر الألماني غوتفريد فون ستراسبورغ في أوائل القرن الثالث عشر قد شكلت مصدراً لإلهام العديد من شعراء الغرب وموسيقييه، بدءاً من بارزيفال أشينباخ وليس انتهاء بالعمل الأوبرالي المتميز لريتشارد فاغنر.

أما أحداث القصة فتتلخص بأن مارك، ملك بلاد كرنواي الذي يتعرض لهجمة عنيفة من أعدائه، لا يجد من يهبّ لنجدته سوى ريفلان، ملك بلاد لونُوا، الأمر الذي يدفعه إلى مكافأته بتزويجه من أخته بلانشفلاور. إلا أن الأخيرة لا تهنأ طويلاً بهذا الزواج، حيث يقضي ريفلان نحبه في إحدى معارك الدفاع عن مملكته، قبل أن تنجب بلانشفلاور ولدها تريستان، ويعني اسمه الشخص الحزين. وبعد أن يفقد تريستان أمه في يفاعته يتبناه الملك ويقوم بتدريبه على فنون القتال، حتى إذا تعرضت مملكة كرنواي لهجوم كاسح من الآيرلنديين لم يجد مارك من يواجه موهورلت الفارس الآيرلندي العملاق سوى تريستان، الذي ينجح في قتل موهورلت، إلا أنه يتلقى منه إصابة بسيف مسموم.

إثر ذلك يغادر تريستان بلاده بحثاً عن دواء، لتضعه المصادفات في طريق إيزولد، أميرة آيرلندا الفاتنة وشقيقة موهورلت التي تقوم بإعطائه دواءً سحرياً دون أن تعلم بأنه قاتل أخيها. وبعدها بسنوات يضع طائر شعرة ذهبية طويلة عند نافذة الملك مارك الذي أرسل تريستان للبحث عن صاحبتها بهدف الزواج منها. وتتولى الصدف بحمل تريستان مجدداً إلى شواطئ آيرلندا، فيقوم بقتل تنين هائل كان يهدد عاصمتها. لكنه يتعرض لبعض الجروح التي تقوم إيزولد مرة أخرى بعلاجها. تهم الأميرة بقتله لدى معرفتها بأنه قاتل أخيها، لكن بعد أن قام تريستان بإبلاغها أنها هي بالذات صاحبة الشعرة الذهبية التي عزم الملك على الزواج من صاحبتها، قررت العفو عنه، ووافقت على الزواج من الملك.

وإذ تعمد أم الأميرة إلى إعطاء خادمة ابنتها المبحرة برفقة تريستان لتتزوج من الملك دواءً سحرياً يؤجج الحب بينها وبين زوجها المنتظر لسنوات ثلاث، تقوم الخادمة عن طريق الخطأ بإعطاء الدواء لإيزولد وتريستان الذي لم تثنه خيانته للملك بفعل الشراب السحري الذي تناوله مع إيزولد عن الوفاء بالعهد الذي قطعه له. ولكي لا يكتشف مارك فعلة عروسه، تعمد الخادمة إلى الحلول مكانها ليلة لزفاف.

إلا أن قيام بعض الوشاة بتحريض الملك ضد تريستان، وتقديم البراهين على خيانته، تدفع مارك إلى معاقبته بالنفي، حتى إذا عمد تريستان إلى الاختلاء بحبيبته قبل رحيله أطلع القزم الماكر فورسين الملك المخدوع على اللقاء. ومع ضبط العاشقيْن متلبسين بفعل الخيانة سلّمت إيزولد إلى قوم من البرص وحُكم على تريستان بالموت. ومع ذلك فقد استطاع تريستان تخليص حبيبته والهرب معها إلى غابة بعيدة حيث كابدا الكثير من المشاق. وحين اهتدى الملك إلى مخبأ العاشقين الهاربين وجدهما نائمين وبينهما سيف صقيل كان تريستان قد وضعه بينهما بالصدفة، فاعتبر ذلك علامة براءتهما ونجيا من القتل.

وعند نهاية السنوات الثلاث وبطلان مفعول الشراب السحري، قام تريستان بإعادة إيزولد إلى الملك، دون أن يتوقف الاثنان عن اللقاء. إلا أن بعض الأحداث اللاحقة دفعت تريستان إلى الظن بأن إيزولد لم تعد تحبه، فعمد إلى الزواج من فتاة أخرى اسمها «إيزولد، ذات الأيدي البيضاء»، دون أن يلمسها لأنه كان لا يزال متولهاً بالأولى. وبعد أن أصيب تريستان مجدداً بجرح مسموم، أرسل في طلب الشفاء من حبيبته الملكة فسارعت إلى نجدته رافعة شراعاً أبيض كعلامة على الأمل. إلا أن الغيرة التي استبدت بإيزولد البيضاء دفعتها إلى إبلاغه بأن لون الشراع أسود، فقضى تريستان نحبه متأثراً بالنبأ المشؤوم، حتى إذا وصلت إيزولد الملكة إلى منزل حبيبها وجدته قد مات، فلفظت أنفاسها على الفور.

وإذا كانت هذه القصة المؤثرة قد تركت خلفها أصداء عميقة وواسعة في بلاد الغرب، بحيث أعاد كتابتها العديد من الشعراء والكتاب، وحوّلها ريتشارد فاغنر إلى عمل موسيقي أوبرالي من ثلاثة فصول، فإنها دفعت الباحثين في الوقت ذاته إلى طرح الكثير من الأسئلة حول طبيعتها وظروف تكوّنها ومرجعياتها الفكرية والثقافية. ففي تقديمه للأسطورة التي أعاد صياغتها جوزف بيديه، عضو الأكاديمية الفرنسية، يقول غاستون باريس إن القصة التي طهّرها الألم وقدّسها الموت، قد خرجت من أعماق المخيلة السلتية المترعة بعوالم السحر وطقوسه الغرائبية، وامتزج فيها العنصر البربري بروح الفروسية الغربية.

أما الباحث الفرنسي دينيس دي رجمون فيرى فيها نوعاً من التصعيد الدلالي لظاهرة التروبادور، وارتقاء بالحب الفروسي التراجيدي إلى خانة الأسطورة. وإذ يعدُّ أنه «ليس للحب السعيد قصة بل للحب المميت»، يؤكد انعكاس التقاليد السلتية في العديد من وقائع القصة، وبينها أن الفتيان في سن البلوغ لا يحصلون على حقهم بالمرأة إلا بعد اجتيازهم لامتحان القوة، الذي اجتازه تريستان بامتياز. كما يرى أن مأساة تريستان كانت تكمن في تحوله إلى ساحة للعراك العنيف بين موجبات الهوى التي تدفعه إلى الاحتفاظ بحبيبته، وبين موجبات التقاليد الإقطاعية التي تلزمه بإعادة إيزولد إلى زوجها.

وإذا كان بعض المتشددين قد أدرجوا العلاقة في خانة الزنى والهوس الشهواني، فإن ثمة من دفع عن العاشقين مثل هذه التهم، باعتبار أن ما فعلاه لم يكن بإرادتهما الواعية، بل تسببت به قوة قاهرة اتخذت شكل الشراب السحري. ورأى آخرون أن حرص تريستان على إعادة حبيبته إلى عهدة الملك لم يكن بدافع الواجب الأخلاقي وحده، بل لاعتقاده بأن الآخر ينبغي أن يظل بعيداً عن الامتلاك الكامل، الأمر الذي يجد تفسيره في حادثة السيف الفاصل بين جسدي العاشقين. ولأن كلاً من الهوى والزواج يتغذى من منابت مختلفة، فقد حرص البطل العاشق على إبقاء حبيبته في فضاء الشغف واللهفة لأن تحوُّلها إلى «مدام تريستان» سينزل بها من سماء الأسطورة إلى الأرض المستهلكة للرتابة والنسيان.

قصة حب مؤثرة حوّلها ريتشارد فاغنر إلى عمل موسيقي أوبرالي

وبصرف النظر عن انقسام الدارسين بشأن تأثر الحب الغربي آنذاك بقصص الحب العربية التي لم تواجه أي صعوبة تُذكر في عبور الأندلس باتجاه الشمال الشرقي، فإن البحث المضني عن جذور محلية وصافية النسب لقصة تريستان وإيزولد لم يكن هدفه العثور على الحقيقة، بل كانت مسوغاته الأبرز تنقسم بين التعصب الإثني والآيديولوجي من جهة، وبين العداء للعرب الفاتحين من جهة أخرى. ومع أن قصة تريستان وإيزولد لا تتطابق على نحو تام مع أي من قصص الحب العربية التي سبقتها في الزمن، فإن فيها أطيافاً متفاوتة المقادير من قصص قيس بن الملوح، وجميل بن معمّر، وقيس بن ذريح وعروة بن حزام، التي انتهت جميعها بموت الحبيبين، كما كان شأن البطلين الغربيين.

وإذا كان الجانب الفروسي من شخصية تريستان لا يتطابق مع كوكبة العذريين الذين أداروا ظهورهم لميادين الحروب، فإن شجاعته الأسطورية الخارقة تحيلنا إلى الشخصية المماثلة لعنترة بن شداد الذي كان عليه للفوز بحبيبته عبلة، أن ينجح في امتحان الشجاعة القاسي، قبل أن تتولى الذاكرة العربية الجمعية كتابة سيرته، وتحويله إلى بطل قومي ملحمي.

وسواء كانت الرياح العاطفية القادمة من الشرق هي التي لفحت بأرجوانها الناري قلوب العشاق الغربيين، أو كان وجيب تلك القلوب يتغذى من رياح محلية المنشأ، فإن عهد الهوس بالحب الجنوني والبعيد عن التحقق ما لبث أن تراجع إلى مربعه الضيق بفعل الضربات القاصمة للمؤسسة الكنسية الحاثة على الزواج. ولم تكن رواية «دون كيشوت» التي كتبها سرفانتس في القرن الخامس عشر سوى مرثية مضحكة مبكية لزمن الفروسية الآفل، واستطلاع بلغة السرد لعصر النهضة القادم، حيث بدأ الجسد يحل محل الروح، وحيث أخلت الأساطير الرومانسية مكانها للتفكير العقلاني وكشوفه العلمية المتسارعة.