الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

يتبعان نسقاً فنياً محلّياً بلغة تصويرية خاصة في النقش والحفر

مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
TT

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي

تحضر الأفعى بأشكال متعدّدة في مجموعة هائلة من القطع الفخارية التي خرجت من مناطق أثرية متفرّقة في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية. ويشهد هذا الحضور الطاغي لنسق فني محلّي يتبع لغة تصويرية خاصة في النقش والحفر، كما تظهر دراسات تناولت هذا الميراث الجامع الذي يربط بين هذه المواقع المتوزعة اليوم على دولة الإمارات المتحدة وسلطنة عُمان. تظهر الأفعى وحدها في هذا الميدان، وتتنوّع تقاسيمها التصويرية في غياب أي عناصر تصويرية أخرى في أغلب الأحيان، غير أنها تندمج استثنائياً في قوالب مميّزة تجمع بينها وبين أشكال حيوانية، كما نرى في عدد محدود من القطع، منها قطعتان مصدرهما موقع «مسافي» في إمارة الفجيرة.

تختلف هاتان القطعتان من حيث الحجم والتكوين، وتتشابهان من حيث الأسلوب بشكل لا لبس فيه. ويصعب تحديد تاريخهما بشكل دقيق، والأكيد أنهما من نتاج الألفية الأولى قبل الميلاد، وتتبعان نسقاً فنياً ظهر في مرحلة متقدّمة من العصر الحديدي. تتمثّل القطعة الأكبر حجماً بمجمّرة تمّ جمع ولحم ما وصل من أجزائها المهشّمة بعد إخضاعها لترميم علمي دقيق ومتأنٍّ. وتتمثّل القطعة الأصغر بمجسّم وصل بشكل كامل، وهو على شكل دابة ذات عنق طويل. يبلغ طول هذه المجمّرة 45.5 سنتيمتر، وقطر إنائها الأعلى 16.5 سنتيمتر. يستقرّ عنق هذا الإناء فوق قاعدة طويلة تأخذ شكل جمَلَين متلاصقين، وصل أحدهما بشكل تام، ووصل الآخر بشكل مجتزأ، وأُعيد تشكيله خلال عملية الترميم التي خضع لها. يعلو هذا الإناء غطاء على شكل قبّة تخرقها شبكة من الثقوب الدائرية، ويظهر فوق قمّة هذه القبّة مجسّم يمثّل دابة فقدت رأسها.

تحمل هذه المجمرة عنصراً تصويرياً آخر يحتل أحد جانبي إنائها، ويتمثّل هذا العنصر بقامة آدمية عُثر عليها بشكل مستقل، وتمّ دمجها بهذه القطعة بعد أن تبيّن أنها تشكّل على الأرجح جزءاً منها في الأصل. وصلت هذه القامة الآدمية بشكل مجتزأ، ويبلغ طولها نحو 14 سنتيمتراً، وتمثّل رجلاً يقف في وضعية المواجهة، فقد ذراعيه وساقيه. يتصل الرأس بالصدر بشكل مباشر، إذ يغيب العنق، ويخلو الوجه من أي ملامح جلية. زُيّنت هذه القامة الآدمية الناتئة بحُلّة لونية بقي منها مسحات باهتة باللونين الأسوَد والأحمَر. وتظهر آثار هذه الحلّة اللونية الممحوة على مكوّنات المجمّرة، وتتوزّع بشبكة من الخطوط تلفّ الإناء، وترتسم على جملَي قاعدته.

يشبه غطاء هذه المجمّرة من حيث التكوين، قطعة أثرية مصدرها موقع «مويلح» في إمارة الشارقة، وهي على شكل قبّة يعلوها تمثال ثور ذي سنام، وتمثّل كذلك غطاء مجمّرة مخصّصة لحرق البخور والطيوب. في المقابل، يتبع الجملان اللذان يشكّلان قاعدة لإناء المجمّرة، نسقاً فنيّاً محليّاً ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية خلال تلك الحقبة من العصر الحديدي، وشواهده كثيرة، وأشهرها جمل يعلو ظهره سرج عريض مربّع، عُثر عليه كذلك في موقع «مويلح». تتميّز مجمّرة «مسافي» بالأفعى التي تتكرّر على أجزاء متعددة، والتي تحضر بشكل ناتئ على ظهر الجمل الذي وصل بشكل كامل، وتبدو كأنها تتحرّك بشكل ملتوٍ في اتجاه رأس الدابة. كما تحضر على شكل حزام يلتف حول خصر الرجل الذي يلعب دور حارس الجمَلَين كما يبدو، وتُزيّن جلدها شبكةٌ من الدوائر المتراصة، وفقاً للنسق التشكيلي السائد.

إلى جانب هذه المجمّرة المميّزة، يحضر مجسّم الدابة الصغير الحجم، ويبلغ طوله نحو 12 سنتيمتراً، ويمثّل على الأرجح جملاً، على الرغم من غياب السنام التقليدي عن صورته. الرأس مسطّح ومرتفع نحو الأعلى بشكل طفيف، والعنق عريض وطويل، وكذلك الصدر والقوائم الأربع المنتصبة بثبات. يقف هذا الجمل فوق قاعدة مستطيلة مسطّحة تشكّل أرضاً له، وتظهر فوق سطح هذه الأرض أفعى ناتئة تتلوى بين قوائمه. كما تظهر أفعى ثانية ناتئة تسعى فوق ظهره، على مثال الأفعى التي تسعى فوق ظهر جمل المجمّرة. وتظهر أفعى ثالثة ناتئة تلتفّ حول عنقه على شكل حلقة. تقابل هذه الأفاعي الناتئة شبكة من الأفاعي خُطّت باللون الأسود فوق أعضاء من بدنه. وتحضر هذه الأفاعي السوداء على أطراف قاعدة هذا المجسّم، وتبدو كأنها تُزيّن إطارها.

يشكّل حضور الأفاعي الأثري الطاغي في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية لغزاً احتار أهل الاختصاص في تفسيره بشكل جليّ. راج الحديث عن «عبادة الأفاعي» في هذا السياق، غير أن هذه الأفاعي تتصل على الأصح بمعبود لم يصل إلينا اسمه بعد، وهي رمز لهذا المعبود المجهول، وتمثّل التجدّد والانبعاث والخصوبة، كما تمثّل الحماية والوقاية والشفاء. تحضر هذه الأفعى في قوالب فنية جامعة تتكرّر وتتماثل في مواقع متعدّدة، وتتجلّى أحياناً في قوالب مبتكرة تبدو غير معهودة، كما تشهد هذه المجمّرة وهذا المجسّم اللذان خرجا من موقع «مسافي».


مقالات ذات صلة

«النقد الثقافي»... البحث عن سلطة النص

كتب «النقد الثقافي»... البحث عن سلطة النص

«النقد الثقافي»... البحث عن سلطة النص

ينتمي كتاب «النقد الثقافي: نحو منهجية التحليل الثقافي للأدب»، للناقد والأكاديمي المصري الدكتور محمد إبراهيم عبد العال، منذ عنوانه، إلى حقل النقد الثقافي.

عمر شهريار
كتب سلمان زين الدين يقرأ «أسئلة الرواية السعودية»

سلمان زين الدين يقرأ «أسئلة الرواية السعودية»

يرصد الشاعر والناقد اللبناني سلمان زين الدين في كتابه «أسئلة الرواية السعودية» تحولات المشهد الروائي السعودي

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون مصطفى الضبع

مصطفى الضبع: كثير من النقاد يفتقر إلى الذائقة والعمق

يصف الناقد الأكاديمي د.مصطفي الضبع في هذا الحوار المشهد الأدبي بأنه «كارثي» وبتعبير أخف «ليس بخير» ويعزو ذلك إلى غياب المشروع النقدي المنتظم والمتابع لحركة الإبداع و يرى أن كثيراً من النقاد يفتقرون إلى الذائقة السليمة والعمق

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون جِرار من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

أفاعي ساروق الحديد

تحضر صورة الأفعى وتتعدّد تقاسيمها التشكيلية في مجموعات مختلفة من القطع الأثرية مصدرها مواقع متفرقة من شمال شرقي الجزيرة العربية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين

أحمد الرحبي: الترجمة عرس فني بين لغتين

«عندما بدأت أتذوق اللغة الروسية كان عليّ أن أعمل لتأمين معيشتي. بدأت من الأصعب وقمت بترجمة الشعر وكانت قصيدة صعبة للشاعر يسينين لكنني فرحت بها»

رشا أحمد (القاهرة)

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر
TT

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

فقدت الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي واحداً من النقاد المتميزين المتابعين بدأب ومحبة لفعالياتها وحراكها الإبداعي. فقد غيَّب الموت الشاعر والناقد الدكتور محمد السيد إسماعيل، بعد معاناة مع مرض الكبد، وشُيعت جنازته الثلاثاء بقريته عن عمر يناهز 63 عاماً، بعد أن وهب أكثر من ثلثي سنوات حياته للأدب والثقافة، شاعراً وناقداً وباحثاً أكاديمياً وكاتباً مسرحياً، وترك للمكتبة العربية الكثير من الكتب المهمة.

وُلد إسماعيل عام 1962 في قرية طحانوب (30 كيلومتراً شمال القاهرة)، وبدأ مشروعه الثقافي مع مطلع الثمانينات وهو لا يزال طالباً في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، لحق أخيراً برفاق جيله من مبدعي الثمانينات وأصدقاء رحلته، الشعراء محمود قرني، وشريف رزق وفتحي عبد الله، وغيرهم من الذين سبقوه في الرحيل، ويبدو أن شعراء جيل الثمانينات في الشعر المصري مُنذَرون للموت مبكراً، دون أن يحصلوا على ما يوازي عطاءهم الشعري والنقدي.

لم يكن غريباً أن تتحول صفحات المثقفين المصريين في مواقع التواصل الاجتماعي سرادق عزاء مفتوحاً، يعزون فيه بعضهم بعضاً في فقيدهم، فهم يعرفون قيمته وقدره جيداً، رغم أنه ليس من المنتشرين في اللجان وتحكيم الجوائز والسفريات لمعارض الكتب والمؤتمرات بالخارج، وكان منشغلاً بأن يضع بصمته في الداخل، يتابع المبدعين الشبان، يكتب عنهم في بداياتهم، يشجعهم ويشد على أيديهم، ويكتب عن المبدعين الكبار بغض النظر عن شهرتهم، أو ما سيجنيه من ورائهم من مكاسب كما يفعل كثيرون، فالراحل تقريباً له يد بيضاء على معظم مبدعي مصر، شعراء وروائيين، ويندر أن تجد مبدعاً مصرياً لم يكتب إسماعيل مقالاً عن روايته أو ديوانه، أو على الأقل يذهب ليناقش هذه الأعمال في ندوة هنا أو هناك، دون حتى سابق معرفة أو مصلحة.

كان محمد السيد إسماعيل يسافر إلى كل محافظات مصر تقريباً، بلا مقابل، ليناقش مبدعاً في بداية طريقه، ولم يعرفه أحد بعد، لمجرد أنه يتوسم في كتابته الموهبة، فيأخذ بيده، ويرشده إلى بدايات الطريق. وكان يشارك بأبحاثه في مؤتمرات قصور الثقافة بكل المحافظات، متجشماً عناء السفر، إيماناً منه بأهمية وصول الثقافة إلى القاطنين في الهامش، هناك في المدن والقرى البعيدة عن مركزية العاصمة.

هذا الخط الذي انتهجه، كان نابعاً من إيمانه بأن المثقف ليس دوره فقط أن يبدع الكتب وينشرها؛ بحثاً عن شهرة أو مال، أو جائزة هنا أو هناك، بل كانت قناعته أن وظيفة المثقف الأولى أن يساهم في نشر الوعي في محيطه القريب، ودائرته الأولى الصغيرة، ثم تتسع هذه الدائرة إلى دوائر أكبر، ولعل فهمه هذا لطبيعة المثقف ودوره ووظيفته، كان دافعه لأن يعدّ رسالة الدكتوراه عن موضوع «المثقف والسلطة في الرواية السياسية»، ولعل هذا التصور هو الذي جعله محافظاً على الإقامة في قريته، دون الانتقال إلى العاصمة بكل أضوائها، وكان كثيراً ما يقيم ويشارك في ندوات في مكتبة صغيرة بها، ويدعو لها كبار المثقفين من أصدقائه، محاولاً إضاءة شمعة وسط عتمة الليل في فضاء القرية.

محمد، القروي، ظل يتعامل مع الثقافة والأدب كفلاح يرعى الأرض ويحرثها، ويغرس النبتة ويرويها؛ أملاً في أن تزهر وتؤتي ثمارها، دون أن يكترث بمن الذي سيحصد ثمارها في نهاية المطاف، فالمهم لديه أن تطرح شجرة الثقافة والوعي، أما جني الثمار فلا يشغل حيزاً من تفكيره، ويترك الآخرين ليتسابقوا على الحصاد، مستمتعاً بأن غرسه أثمر. كل هذا نتيجة تكوينه الشخصي، وتركيبته النفسية وقناعاته الآيديولوجية، فقد كان اعتناقه أفكار اليسار عن العدالة الاجتماعية هو المرجعية العقلية لمساره الثقافي. وإضافة إلى عقله يساري التوجه، كان يتحرك بروح متصوف زاهد، لا يسعى إلى مكاسب الدنيا، ويعيش كأنه ناسك، لا يلهث وراء مكاسب زائلة. العقل اليساري والروح المتصوفة، امتزجا بقلب الشاعر الحالم، الباحث دوماً عن عالم أفضل، والحالم بالمدينة الفاضلة، مؤمناً بأن نشر الثقافة والجمال والإبداع والشعر هو أقصر طريق لمقاومة القبح والتطرف وكل سلبيات العالم.

حصل الراحل على الماجستير والدكتوراه في الدراسات الأدبية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعمل طوال حياته مدرساً للغة العربية، بدأ كتابة الشعر في مرحلة مبكرة، ورغم النزعة المحافظة التي تسم خريجي دار العلوم، فإنه اختط لنفسه مساراً مغايراً، فكان أحد المبشرين للحداثة الشعرية والنقدية، حتى أنه كان أحد أهم شعراء قصيدة النثر، وأحد نقادها البارزين أيضاً.

نُشرت قصائد الشاعر الراحل ودراساته النقدية في مجلات مصرية وعربية، وشارك في مهرجانات شعرية متعددة. وأصدر الكثير من الأعمال الإبداعية، منها سبعة دواوين، هي: «كائنات في انتظار البعث»، و«الكلام الذي يقترب»، و«استشراف إقامة ماضية»، و«تدريبات يومية»، و«قيامة الماء»، و«أكثر من متاهة لكائن وحيد»، و«يد بيضاء في نهاية الوقت». هذه الدواوين جعلته واحداً من أهم الأصوات الشعرية في جيل الثمانينات، ولا يمكن لباحث أو ناقد عمل مقاربة شعرية لهذا الجيل دون أن يتوقف طويلاً عند هذه الدواوين. كما أصدر أربعة أعمال مسرحية: «السفينة»، و«زيارة ابن حزم الأخيرة»، و«وجوه التوحيدي»، و«رقصة الحياة».

كما أصدر إسماعيل الكثير من الكتب النقدية التي رسّخت اسمه واحداً من أهم العقول النقدية الفاعلة في المشهدين الأدبي والنقدي، ولم تتوقف أعماله النقدية عند نوع أدبي بعينه، بل تناولت الشعر والقصة والرواية، منها: «رؤية التشكيل»، و«الحداثة الشعرية في مصر»، و«غواية السرد»، و«حداثة النص الشعري: الوعي النظري والاستجابة الجمالية»، و«شعرية شوقي»، و«الخروج من الظل: قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر»، و«بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة»، و«أساليب السرد في الرواية الأفريقية»، و«الرواية والسلطة»، و«دلالات المكان السردي»، و«التراث والحداثة: قراءة في القصيدة العربية المعاصرة». إضافة إلى ثلاثة كتب فكرية، هي: «التراث والحداثة» و«نقد الفكر السلفي» و«تنوير المستقبل».

حاز الراحل جوائز عدة تقديراً لجهده المتواصل على مدار أربعة عقود، منها جوائر في النقد من المجلس الأعلى للثقافة، وهيئة قصور الثقافة، ودائرة الإبداع بالشارقة، ومجمع اللغة العربية، وجائزة في الشعر من صندوق التنمية الثقافية، وأخرى في المسرح من اتحاد الكتاب، وجائزة إحسان عبد القدوس. كُرم بصفته أفضل ناقد أدبي في مؤتمر أدباء مصر، واختير شاعراً في معجم البابطين، وتولى أمانة مؤتمر القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي. لكن بعيداً عن هذه الجوائز، فإنه حاز جائزة أكبر، وهي تقدير الأوساط الثقافية المصرية لدأبه وتجرده، ومسيرته الإبداعية والنقدية الناصعة.