«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

يعد أحد المراجع الأساسية للناقد الإنجليزي أشلي ديوكس

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟
TT

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

«الدراما»... كيف يتعامل صنّاع المسرح مع «لغز» الجمهور؟

عن دار «إضاءات» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «الدراما» للكاتب المسرحي والناقد الإنجليزي أشلي ديوكس، والذي يعد أحد المراجع التأسيسية في فن المسرح منذ أن صدرت الطبعة الأولى منه عام 1927.

ويتناول المؤلف في كتابه الذي ترجمه محمد خيري، وراجعه الدكتور عبد الحميد يونس، العديد من عناصر فن الدراما، مثل أنواع هذا الفن وأهمية الإخراج والتمثيل، لكنه يتوقف بشكل خاص عند فكرة الجمهور وكيفية التعامل معه، بخاصة بعد أن أصبحت هذه الفكرة «لغزاً» مع تطور فنون المسرح وأشكاله التجريبية لدى الكثير من صنّاعه، وأصبح السؤال اللافت: هل ينبغي الخضوع لها أو تجاهلها أو هناك حل وسط؟

ويشير المؤلف إلى أن أصحاب المسارح اعتادوا أن يطلقوا على «المشاهدين» كلمة «الجمهور»، وهي تسمية تعبر عن مدى الأثر العام للدراما، ولكن تلك التسمية تدفعهم إلى التسرع في الوهم بأنه لا يوجد سوى «جمهور» واحد فقط؛ وعلى ذلك يقال عن مسرحيةٍ ما إنها «ما فوق مستوى الجمهور»، وعن أخرى إنها من النوع الذي يرغب فيه الجمهور. ويلفت الكتاب إلى أنه في كل عام تُنفق أموال طائلة في محاولة إلى إشباع حاجة جمهور «وهمي»، في حين أن هناك أنماطاً مختلفة من جمهور المسرح، ولكل منها ذوقه الخاص، كذلك يوجد دائماً «جمهور مستتر» مثل الجمهور المثقف الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد كف عن ارتياد المسرح وما لبث أن أقبل عليه مع تألق الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن في الدراما الاجتماعية.

ومن ثم، يوضح الكتاب أن لكل مسرحية جيدة جمهورها الخاص سواء أكانت مسرحية لشكسبير أم كوميديا موسيقية، ويختار صاحب المسرح الذكي جمهوره من الجماهير العديدة التي يمكن أن يجتذبها، وهو لا يسعى إلى تثقيف هذا الجمهور الذي يتألف من أفراد من عامة الشعب، كما يضم أناساً مثقفين مثله، لكنه يعمل على الملاءمة بين ذوقه وذوقهم. وقد يفقد في سبيل ذلك بعض المال، لكنه لن يفقد أبداً ما يفقده زميله الذي يمضي حياته يتلمس عناصر النجاح الشعبي فقط؛ لأن الجمهور بالنسبة له ليس حقيقة من الحقائق، ولكنه وهْم من الأوهام التي تسيطر عليها.

في مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة

ويذكر الكتاب في هذا الصدد أن جمهور المسرح متغير من الناحية الكمية باستمرار بصرف النظر عن قوة الدراما أو روعتها، فالمسارح تتمتع أحياناً بنجاح غامض كما تعاني فترات غير مفهومة من الركود، وهي تتأثر بالتغيرات المفاجئة حتى التقلبات الجوية الطارئة. ولم توقظ الحرب الأوروبية ملكة الخيال والمشاعر عند رواد المسرح، ولكنها هبطت بمعظم المسارح في البلدان المتحاربة إلى أدنى مستوى من الذوق وصلت إليه منذ أجيال. وقد يتعرض عالم الملاهي لكارثة بسبب أزمة سياسية أو إضراب يقوم به عمال النقل أو فترة حداد قومي، ولا يدهشنا إذا رأينا صاحب المسرح يميل إلى تتبع أوهام الجمهور في شيء من الرهبة الأسطورية. إنه يرى في كل ليلة عدداً من الناس المجهولين له الذين لا نعرف أبداً مَن منهم حضر المسرحية بناء على الإعجاب بممثل معين من ممثلي العرض، ومَن منهم اجتذبته إلى المسرح فنون الدعاية والإعلان، أو مَن منهم استجاب لإعلانات الصحف.

وفي الختام يركز الكتاب على سيكولوجية جمهور المسرح، ويذكر أنهم يبدون كمخلوقات ذات أمزجة وأهواء غريبة ولا يمكن تعليل ما يقومون به من تصفيق، قد يضحكون ذات مساء من أعماق قلوبهم على عبارة يسمعونها في الليلة التالية في صمت ووجوم. وهكذا تنتابهم حالات من الحماس ومن الفتور، ومن المرح والعبوس، ومن الرقة والخشونة. ويشعر الممثلون بهذا التغيير في مزاج الجمهور قبل مرور عشر دقائق من الفصل الأول، ثم ينطلقون في التعليق عليه خلال فترات ما بين الفصول. ولا شك في أن لغز الجمهور يكمن إلى حدٍّ ما في حجمه، ففي مقابل كل شخص يقرأ كتاباً ناجحاً تجد عشرة أشخاص يشاهدون مسرحية ناجحة. يدخل المسرح عدد ضخم من المشاهدين وهويتهم غير معروفة، ثم يغادرون أبوابه دون أن يتركوا وراءهم أثراً. هذا الجمهور لا يعرف بصفة عامة شيئاً عن المؤلفين، وهو يعرف القليل عن الممثلين، ويجلس ساعتين أو ثلاثاً منهمكاً في مشاهدة ما يُعرض أمامه من تمثيل، ثم لا يلبث أن يختفي في ليل من النسيان.


مقالات ذات صلة

محمد الفولي يروي تجربته في النقل عن الإسبانية

ثقافة وفنون محمد الفولي

محمد الفولي يروي تجربته في النقل عن الإسبانية

يروي المترجم محمد الفولي في كتابه «النص الأصلي - عن الترجمة ومسارات الحياة» الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة فصولاً من كواليس وخفايا الترجمة الأدبية

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون ضد شعرية «الكليشة»

ضد شعرية «الكليشة»

ثمة مجموعات شعرية تستدعي عند قراءتها رجوع القارئ (باحثاً كان أو قارئاً) إلى نوع من المراجعة لمفهوم وشكل قصيدة النثر العراقية والعربية.

علي سعدون
ثقافة وفنون شعراء كركوك طوّروا تجربة حسين مردان في قصيدة النثر

شعراء كركوك طوّروا تجربة حسين مردان في قصيدة النثر

عن دار «النابغة» في القاهرة، صدر للدكتور رسول عدنان كتاب عن الشعراء العراقيين الذين اتفق على تسميتهم بـ«جماعة كركوك»

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

يطرح الكاتب المصري مينا ناجي سؤالاً مركزياً هو: «كيف نحب في حياة صعبة كهذه؟»، ليتأمل في ظواهر الحب والروحانيات والتاريخ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
TT

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن
أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟ قطعاً لا، فمفهوم «الرواج» قد انفصل في عصرنا هذا عن معيار «الجودة الأدبية»، وغالباً ما أصبح يعكس استجابة لمتطلبات السوق وتوقعات القارئ الباحث عن الترفيه السريع والتشويق العابر. في سياق هذا الجدل الدائر حول العلاقة بين الرواج التجاري والقيمة الأدبية، تبرز أسماء معينة لتُشكل حالة لافتة، من بينها حالة الكاتبة الأميركية فريدا ماكفادن التي استطاعت في سنوات قليلة أن تُحقق نجاحاً ساحقاً، وتُسيطر على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً برواياتها التي تنتمي إلى أدب التشويق النفسي.

الأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام تبدو خرافية: 40 مليون نسخة من روايتها بيعت في العالم منذ 2022، منها 7 ملايين باللغة الإنجليزية و3 ملايين باللغة الفرنسية. روايتها الشهيرة «الخادمة» (أو ثي هاوس مايد) احتلت صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في موقع «أمازون» لمدة 83 أسبوعاً على التوالي و60 أسبوعاً في قائمة «النيويورك تايمز» المرموقة. في فرنسا وبلجيكا يبقى الإقبال قويّاً على أعمالها منذ صدور «الخادمة»: إحصاءات معهد «جي إف كا» مع صحيفة «ليفر إبدو» تتحدث عن 30 ألف نسخة تباع أسبوعياً. في 2024، كتاب من بين كل كتابين بيعا في فرنسا كانا من إمضاء فريدا ماكفادن، علماً بأن هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع بعد صدور روايتها الأخيرة «الطبيبة النفسية» في أبريل (نيسان) الماضي.

الظاهرة أثارت اهتمام الصحافة الأدبية التي لم تستوعب سرّ هذا النجاح، فعلى الرغم من النجاح الجماهيري اللافت الذي حققته فريدا ماكفادن، لم تَسلم أعمالها من النقد الذي طال جوانب بنيوية وفنية في رواياتها. فقد رأى بعض النقاد أنها تميل إلى التكرار في البناء السّردي مما يجعل نهايات قصّصها متوقعة لدى القارئ المتمرّس، في حين تبدو بعض الحبكات قائمة على عنصر المفاجأة المجردة من العمق الدرامي. كما وُجهت لها ملحوظات بشأن سطحية رسم الشخصيات، إذ تفتقر في بعض الأحيان إلى تقديم دوافع نفسية متينة، مما يُضعف من واقعية أبطالها ويُقلل من قدرة القارئ على التماهي معهم.

أما على مستوى اللغة، فقد اعتُبر أسلوبها مباشراً إلى حدّ التبسيط، يفتقر إلى المجاز والرمزية التي تُثري الأدب النفسي، وهو ما يجعل بعض رواياتها تبدو أقرب إلى القراءة السريعة منها إلى التأمل الأدبي العميق.

يُضاف إلى ذلك، اعتمادها المتكرر على قوالب نمطية مألوفة في أدب التشويق، مثل «الزوجة الغامضة» و«المنزل المريب»، ما أثار تساؤلات حول مدى التجديد والابتكار في أعمالها... صحيفة «نوفيل أبسورفاتور» تساءلت بمرارة: «فريدا ماكفادن تكتسح سوق الكتب، لكن ما الذي يجده القرّاء فيها؟»، وبعد حوارات مع العديد من قرّائها وصل كاتب المقال إلى النتيجة التالية: من أسرار رواج ماكفادن قدرتها على الوصول إلى جمهور واسع، بدءاً من الشباب ووصولاً إلى كبار السّن بقصّص تلامس الهموم الإنسانية المشتركة كالوحدة والتوتر النفسي والانفصال والفقر. لكن الصحيفة الفرنسية ركزّت على عنصر مهم هو إتقان الكاتبة لفن التلاعب بالقارئ وبراعتها في فن الحبكة الدرامية القائمة على التشويق التدريجي، فهي لا تكتفي ببناء قصّة مشوقة فحسب، بل تُتقن فن قلب التوقعات، حيث تأتي النهاية محمّلة بانعطافات درامية غير متوقعة تغيّر فهم القارئ لما قرأه من قبل. هذا الأسلوب يجعل القارئ يعيد التفكير في الأحداث السابقة من منظور جديد، مما يمنح الرواية عمقاً إضافياً ويزيد من تأثيرها العاطفي والنفسي.

أما صحيفة «ليبراسيون»، فقد وصفت أعمالها بأنها «روايات تُلتهم مثل الوجبات السريعة»، بينما شبّهتها «لو فيغارو» بـ«أدب المحطة» في إشارة إلى أسلوبها البسيط، فخلافاً لكثير من الكتّاب الذين يستخدمون وصفاً مطوّلاً، تعتمد ماكفادن على سرّد مباشر وسهل الفهم. جملها قصيرة، وأسلوبها خالٍ من الزخرفة أو التعقيد، مما يجعل القارئ يدخل في قلب القصة بسرعة، ويشعر وكأنه يقرأ تفاصيل حياة حقيقية وليست مجرد رواية خيالية. هذا الأسلوب البسيط هو ما يمنح أعمالها قوةً وتأثيراً نفسياً كبيراً، لأن القارئ لا ينشغل باللغة أو الأسلوب، بل يركّز على القصة والأحداث. كثير من التقارير أشارت إلى الدور المحوري الذي تلعبه مجتمعات القراءة الرقمية ومنصّات التواصل الاجتماعي في انتشار أعمالها، كمراجعات القرّاء التي تُترك على منصّة «غود ريدس» و«أمازون»، التي لا تقّل أهمية عن المراجعات النقدية الأكاديمية، حيث تساهم بشكل كبير في بناء سمعة الكاتب، إضافة إلى التفاعل الجماهيري المستمر مع القرّاء عبر منصّات مثل «إنستغرام» و«فيسبوك» وخصوصاً «تيك توك» من خلال ما يُعرف بـ«البوك توك» (BookTok)، وهي مجتمعات رقمية يتداول فيها القراء ترشيحات الكتب بطريقة جذابة، مما ساهم في تضاعف مبيعاتها وانتشار اسمها عالمياً.

40 مليون نسخة من روايات ماكفادن بيعت في العالم منذ 2022 منها 7 ملايين باللغة الإنجليزية و3 ملايين بالفرنسية

البعض عدَّ أن التسويق الذكي الذي حظيت به أعمال ماكفادن كان فعالاً وهو يبدأ من الغموض الذي يكتنف شخصية الكاتبة نفسها، الذي أصبح بمثابة «علامتها التجارية». فخلف الاسم المستعار (والشعر المستعار) تُخبئ الكاتبة هويتها الحقيقية كطبيبة متخصّصة في إصابات الدماغ، وكل ما يعرف عنها أنها تسكن مدينة بوسطن مع زوجها وولديها، فهي ترفض باستمرار دعوات الظهور في المعارض الأدبية الكبرى، وتتجنب المقابلات الصحافية حتى شكّكك البعض في وجودها ولمحوا إلى احتمال أن تكون من ابتكار الذكاء الاصطناعي.

في حوار نادر عبر الهاتف لصحيفة «لوبرزيان»، قالت الكاتبة الأميركية إنها تتفادى صخب الصحافة وأضواء الشهرة لأنها تعاني من الفوبيا الاجتماعية، وتُفضل أن تكون «الكاتبة» التي تُقرأ أعمالها، لا «الشخصية العامة» التي تُلاحقها الكاميرات وتُحلل حياتها الشخصية.

كانت الكاتبة الأميركية قد بدأت مسيرتها الأدبية عام 2013 بكتابة مدونات شخصية، وفي عام 2013، نشرت روايتها الأولى «الشيطان يرتدي ملابس العمل» مستلهمةً إياها من عملها طبيبةً، ثم واصلت نشر أعمالها في منصات التواصل و«أمازون»، حتى جاءت نقطة التحول الكبرى في عام 2019 مع رواية «الخادمة» التي حققت نجاحاً هائلاً غير مسبوق عند نشرها ورقياً في عام 2022. هذا النجاح دفع دور النشر الكبرى للاهتمام بأعمالها السابقة واللاحقة.