كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

دور النشر فتحت أبوابها لهم وتواجه تهماً بإشاعة الرداءة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».


مقالات ذات صلة

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

كتب غريغوري راباسا

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية.

لطفية الدليمي
كتب سردية تاريخية لفهم «الجنون»

سردية تاريخية لفهم «الجنون»

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في كتابها «تاريخ الجنون والمصحات العقلية»، تنطلق الكاتبة جوليانا كامينجز في رحلة موصولة بشغف طويل لتتبع تاريخ المرض العقلي

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

«جوركي وتشيخوف»... مراسلات في الأدب والحياة

تكشف الطبعة الجديدة من «مراسلات جوركي وتشيخوف»، عن جانب من جوانب روائع الفكر في الأدب التي يعبر عنها اثنان من العظماء في تاريخه هما مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

كيف عكست الرواية النسائية صورة الرجل المعاصر؟

في المجتمع يتناول كتاب «صورة الرجل في السرد النسوي المعاصر» الصادر عن دار «بيت الحكمة» للناقدة د. رشا الفوال تحليلاً فنياً وجمالياً من خلال منهج التحليل النفسي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «دماء على البالطو الأبيض»... التطرف حين يصل إلى «ملائكة الرحمة»

«دماء على البالطو الأبيض»... التطرف حين يصل إلى «ملائكة الرحمة»

عن دار «ريشة» للنشر في القاهرة، صدر كتاب «دماء على البالطو الأبيض» للكاتب المصري الدكتور خالد منتصر الذي يناقش عبر فصوله ظاهرة لافتة، بل صادمة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا
TT

راباسّا... حياةٌ مكرّسة للترجمة

غريغوري راباسا
غريغوري راباسا

قد لا يعرف كثيرون اسمه ولم يسمعوا به من قبلُ؛ لكنّهم - على الأرجح - يمتلكون بعض أعماله في مكتباتهم. إنّه غريغوري راباسا Gregory Rabassa، المثابة الشاخصة في الترجمة الأدبية. ترجم لأكثر من 30 كاتباً ناطقاً بالإسبانية والبرتغالية من أميركا اللاتينية إلى الإنجليزية. فَتَحَتْ ترجمات راباسا أعين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية على الموجة الغنية من الأدب الحديث لأميركا اللاتينية المستوحى من التراث الشعبي (Folktale)، التي أُنتِجَتْ خلال فترة «الازدهار The Boom» لمؤلفين مثل خوليو كورتاثار، وماريو فارغاس يوسا، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز.

«إذا كانت هذه خيانة If This Be Treason» هي مذكرات راباسا القصيرة؛ لكنها برغم قصرها مثيرة للتفكير. فضلاً عن كونها غنية بالمتع اللغوية والحقائق التاريخية والإشارات الأدبية فإنّ المذكّرات تظهر بجلاء وكأنّها عملُ شاعر بارع، تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة تقلب مسار اللعبة. تحفل المذكّرات بالعديد من الحكايات الشخصية؛ إلا أن راباسا يحافظ على مسافة بين السطور طوال الوقت كما لو أنّه لا يريد التصريح بعائديتها له. ربما يعود ذلك إلى أنه - كمترجم - اعتاد على المكوث في منطقة الظلّ، مقتفياً أثر المؤلفين الذين يترجم لهم. هذه بالطبع بعضُ مكابدات المترجم أينما كان في العالم. مع ذلك فإن اتباع كلمات المؤلف والعمل في ظلال نصوصه لا يعني التنصل من عبء المسؤولية. الأمرُ على العكس تماماً. إن العبء الأكبر الذي يقع على عاتق المترجم هو التفكير في خيانته الضرورية لأداء عمله، وهذا تماماً ما يفعله راباسا في القسم الأول من مذكراته. هنا يقدّم راباسا مراجعة لفعل المثاقفة المنطوية على خيانة كما وصف المثل الإيطالي القديم الذي صار واحداً من أشهر الأمثلة الكلاسيكية. يتساءل راباسا في مدخل أطروحته الجميلة حول الخيانة الترجمية: هل يخون هو (أي راباسا)، أو أي مترجم سواه، اللغة، أو الثقافة، أو المؤلف، أو - وهذا هو الأشدّ إيلاماً - نفسه عند الترجمة؟ كما يعلم كل من مارس فعل الترجمة الحقيقية، فإن نوعاً من الخيانة (أو الخسارة الثقافية) أمرٌ يكاد يكون حتمياً؛ بل إن راباسا يذهب إلى حد القول إن الترجمة فعلُ تقليد نجتهدُ أن يكون بأفضل ما يمكن لأننا لا نستطيع أن نكرر تماماً في لغة ما نقوله في أخرى. ومع ذلك علينا أن نحاول ولا نكفّ عن المحاولة وتحسين الفعل. يقول راباسا في هذا الشأن: «قد تكون الترجمة مستحيلة؛ ولكن على الأقل يمكن تجربتها».

يستخدم راباسا القسم الأول أيضاً للإطلالة السريعة على وقائع موجزة من خلفيته العائلية والثقافية والمهنية. يبدو الأمر وكأنّ راباسا كان مهيّئاً على نحو جيد منذ البدء ليكرّس حياته للترجمة. كان ابناً لأبوين عاشقين للكلمات، وجَدّين من أربعة بلدان مختلفة، حظي بتعليم لغوي مكثف ومتنوّع وممتاز، وشرع في مسيرة عسكرية قصيرة أوصلته إلى أوروبا وأفريقيا البعيدتين كخبير تشفير (Cryptographer) للمراسلات العسكرية. ثم يُواصل راباسا عرضَ موقفه في قضايا شائكة مثل نظرية الترجمة (وهو ليس من مُعجبيها ولا معجبي منظّريها الأكاديميين الذين يراهم ديناصورات متغطرسة!)، ودور النشر الكبيرة التي يمقتها أيضاً، ووظيفة المترجم التي يراها ببساطة أن يتبع المترجم كلمات المؤلّف مع كلّ حمولتها الثقافية والسياقية. من جانب آخر يُبدي راباسا استخفافاً بتدريس الترجمة، ويكتب في هذا الشأن: «لقد حاولتُ تعليم ما لا يُمكن تعليمه. كما ذكرتُ سابقاً، يُمكنك شرح كيفية الترجمة؛ ولكن كيف يُمكنك أن تُملي على الطالب ما يقوله دون أن تُعبّر عنه أنت بنفسك؟ يُمكنك أن تُملي عليه أي كتاب يقرأه؛ ولكنك لا تستطيع قراءته نيابةً عنه». من المثير معرفةُ أنّ راباسا - وهو ما صرّح به في الكتاب - نادراً ما يقرأ الكتب التي يترجمها قبل البدء بالعمل عليها، مسوّغاً ذلك بالقول: «عندما أترجم كتاباً فأنا - ببساطة - لا أفعل شيئاً سوى قراءته باللغة الإنجليزية. الترجمة قراءة لو شئنا الدقّة». إلى جانب هذا يرى راباسا الترجمة فناً لا حرفة: «يمكنك تعليم بيكاسو كيفية خلط ألوانه؛ لكن لا يمكنك تعليمه كيفية رسم لوحاته».

القسم الثاني هو الجزء الأكثر ثراءً في مذكّرات راباسا. يناقش راباسا فيه ما يربو على ثلاثين مؤلفاً سبق له أن ترجم لهم. يتناولهم بترتيب زمني (كرونولوجي) مقصود لأن كل عمل ترك بصمته على الذي يليه بطريقة ما. يؤكّدُ راباسا في بداية هذا القسم أنّ تجربته الشخصية مع الترجمة أبعدُ ما تكون عن التعقيد أو الإزعاج. هو يتبع النص، يتركه ليقوده إلى حيث يتبيّنُ موطن التميّز والاختلاف فيه وربما حتى الابتكار الذي يميّز كل مؤلف عن سواه. يضيف راباسا في هذا الشأن: «يدعم هذا نظريتي بأنّ الترجمة الجيدة هي في الأساس قراءة جيّدة: إنْ عرفنا كيف نقرأ وفق ما ينبغي للنص فسنتمكّنُ من صياغة ما نقرأه في لغة أخرى بطريقتنا الخاصة. قد أتمادى وأقول نصوغه بكلماتنا الخاصة...».

يتذكّرُ راباسا بعض المؤلفين بمودّة كبيرة بعد أن التقى بالعديد منهم، وأصبح صديقاً حميماً لهم، أو حتى دَرَسَ أعمالهم عندما كان طالباً بعدُ. يُغدق راباسا بالثناء والتشبيهات على بعض هؤلاء الكتّاب: خوان بينيت مثلاً هو بروست إسبانيا، وغابرييل غارسيا ماركيز هو الوريث المباشر لثيربانتس، وكلاريس ليسبكتور كانت تُشبه مارلين ديتريش وتكتب كفيرجينيا وولف؛ لكنّ الحياة لم تحسن معاملتها كما تستحق. يميل راباسا إلى التقشّف والاختصار والمباشرة في كل شيء، وربما هذه بعض خصال المترجم الحاذق.

لن يكون أمراً غريباً أن يُكرّس راباسا صفحاتٍ أكثر لغابرييل غارسيا ماركيز من أي كاتبٍ آخر؛ فقد ترجم له ستاً من رواياته. يُقالُ إنّ غارسيا ماركيز كان يُفضّل ترجمة راباسا الإنجليزية على روايته الأصلية. وكما هو مُعتاد، يُقدّم راباسا هذا الإطراء بأسلوبٍ متواضعٍ مُميّز: «شعوري الغامض هو أن غابو (غابريل غارسيا ماركيز) كانت لديه بالفعل كلماتٌ إنجليزيةٌ مُختبئةٌ خلف الإسبانية، وكل ما كان عليّ فعله هو استخلاصها». برغم هذه الجودة الترجمية والمبيعات الهائلة لماركيز يصرّحُ راباسا في ملاحظة صغيرة أنّه لم يحصل على أيّ عائد مالي من ترجمة رواية «مائة عام من العزلة» التي كانت أوّل عمل ترجمه لماركيز.

تظهر المذكّرات وكأنّها عملُ شاعر بارع. إنها تبقيك متيقظاً كمن يلعب الشطرنج ويتوقّع كل حين نقلة غير متوقّعة

السياسة موضوع لا مفر منه مع أن راباسا لا يُكثِرُ من التطرق إليه. الواقعية السحرية (Magical Realism) ذلك المصطلح الذي يُثير جدلاً واسعاً كانت في ذهن راباسا دعوةً شعبيةً للحرية والعدالة. في موضع آخر، يذكر بإيجاز أن الواقعية السحرية كانت المقاربة الروائية التي دفعت كُتّاب أميركا اللاتينية إلى استكشاف الجوانب المظلمة في تاريخ القارة المنكوبة بالاستغلال والقهر الاجتماعي.

في القسم الثالث «القصير جداً. لا يتجاوز نصف الصفحة إلا بقليل»، يُدين راباسا خيانته المفترضة! هو يُعاني من المعاناة ذاتها التي يُعاني منها العديد من المترجمين: إنّه ببساطة لا يرضى أبداً عن عمله عندما يُراجعه. لا يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من عمله أبداً.

انتقد البعض هذا الكتاب لكونه مغالياً في الاختصار؛ لكنني أظن أنً راباسا تقصّد هذا الاختصار. أما نجوم المذكّرات الحقيقية فهي الأعمال نفسها، سواء نصوص المؤلفين الأصلية الإسبانية أو البرتغالية أو ترجمات راباسا الإنجليزية لها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار أشعر أنّ هذا الكتاب، على الرغم من روعته، يجب أن يأتي مع تحذير. لا يخدعنّك الاختصار أو التقشّف. إذا كنتَ ممّن يرى في الترجمة فعل مثاقفة رفيعة لا يحسنُها سوى العقل المسكون بالشغف والفضول المعرفي فقد لا يكون هذا الكتاب الصغير سهل القراءة أبداً.

«إذا كانت الترجمة خيانة»: مذكّرات غريغوري راباسّا (دار المدى 192 صفحة 2025)