يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم يصف لنا عالماً ينعدم فيه الصراع

نك بوستروم
نك بوستروم
TT

يوتوبيا عالم ما بعد النُدْرة

نك بوستروم
نك بوستروم

بعد كتابه المثير المنشور عام 2016 عن جامعة أكسفورد بعنوان «الذكاء الفائق: المسارات... المخاطر... الاستراتيجيات»، يعود الفيلسوف الأكسفوردي، سويدي الولادة، نِكْ بوستروم Nick Bostrom لينشر كتاباً جديداً له خالَف فيها توقعاته المتحفظة بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي الفائق على أن يشكّل مصدراً تهديدياً ممكناً للجنس البشري والحضارة البشرية. في كتابه الجديد يبدو بوستروم وكأنّ جائحة تفاؤلية قد تملّكته بشأن الممكنات الرائعة التي يَعِدُ بها الذكاء الاصطناعي. الكتاب الجديد منشور حديثاً (مارس/ آذار 2024) بعنوان «يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته»

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

النُدْرة محرّكاً للصراع البشري

كتابُ بوستروم الجديد يتمايز تمايزاً ملحوظاً عن كتابه السابق، وهو وإن وردت فيه عبارة «الذكاء الاصطناعي» كأحد العناصر الفاعلة في تشكيل الحاضر والمستقبل؛ فإن الكتاب يتناول في جوهره معضلة المعنى في سياقات مختلفة من أشكال الحياة البشرية.

أطروحة بوستروم في كتابه الجديد في غاية الوضوح والمعقولية ولا تحتاجُ إلى فذلكات مفاهيمية مراوغة أو معقّدة: الوجود البشري منذ بداياته الأولى اقترن بفكرة الصراع Conflict. الندرة Scarcity أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو، هذه كلها تغذّت على فكرة التغالب على مصدر محدود كان طبيعياً في بداياته (ماء، غذاء، وقود، أرض زراعية، أحجار كريمة) ثم صار خليطاً من مصادر طبيعية وغير طبيعية في أوقات لاحقة.

فكرة الندرة المسببة للصراع لها مترتباتها الواقعية والفلسفية والأخلاقية. لمّا كانت الطبيعة محكومة بمحدودية مواردها (خصوصاً غير المتجددة منها، مثل الخامات والنفط والذهب) فإنّ الكائنات البشرية تبدو مأسورة في نطاق صراع تطوّري يبدأ بالحاجة إلى تناول الطعام، من أجل إدامة البقاء، ثمّ من أجل تمرير مورثاته الجينية إلى سلالة لاحقة له. هذا هو منشأ فكرة التنافس Competition. هنا ينشأ تساؤل جوهري القيمة: ماذا لو ألغينا الحاجة إلى التنافس عن طريق توفير كلّ الحاجات الضرورية للعيش (الضرورية بمعنى البيولوجية)؟ سيضمحلّ التنافس تلقائياً وتختفي فكرة الصراع. عصر الوفرة Age of abundance سيكون بالضرورة عصراً خالياً من أشكال الصراع التقليدية.

يوتوبيا الوفرة: رؤية كينزية

الاقتصادي العالمي ذائع الصيت جون ماينارد كينز بشّر بنوع من يوتوبيا الوفرة بمقالة تاريخية له نشرها عام 1930، وكان لها أهمية مرجعية كبرى. المقالة عنوانها «الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا». رأى كينز في مقالته هذه أنّ البشرية في طريقها لحلّ المعضلة الاقتصادية القائمة على فكرة الندرة، ورأى أنّ عام 2030 (أي بعد قرن من نشر مقالته) هو العام الذي سنشهد فيه قدرة المدّخرات المتراكمة والتقدّم التقني على زيادة الإنتاجية إلى مناسيب تفي بالحاجات البشرية المتزايدة بمجهودات بشرية أقلّ بكثير من السائدة أيام كتابته للمقالة.

رأى كينز أنّ ساعات العمل الأسبوعية ستتراجع إلى حدود 15 ساعة، لكنّه حذّر في الوقت ذاته من أنّ ساعات الفراغ الطويلة قد تتسبّبُ في إشاعة نمط من الملل الذي ينشأ عنه انهيار عصبي جمعي ناجم عن انعدام المعضلات التي تتطلب حلولاً في العيش اليومي. ونحن نقترب من عام 2030 نرى بعض تنبؤات كينز متحققة بتقريبات جيدة فيما يخص زيادة مناسيب الدخل الإجمالي السنوي، لكنّ ساعات العمل الأسبوعية كمعدّل تتراوح في نطاق 36 ساعة، وهي بهذا بعيدة بمقدار غير قليل عن 16 ساعة التي بشّر بها كينز. في كلّ الأحوال، وبالمقارنة مع ما تحقق عبر السنوات المائة الماضية، يبدو أنّ تنبؤات كينز ليست بعيدة عن التحقق الكامل. هل سنعيش أخيراً يوتوبيا جديدة، يوتوبيا مابعد الندرة Post-scarcity Utopia نعمل فيها قليلاً، ويكون لنا فيها ساعات فراغ تتيح لنا التحلُّل من منغّصات العمل الخالي من شغفنا الحقيقي؟

سؤال المعنى في الحياة البشرية

منذ القدم ميّز الفلاسفة - ومثلهم فعل باحثو الوضع البشري المحدّثون - بين المتعة الآنية الناجمة عن إشباع لحظوي للحاجات البشرية البيولوجية Hedonia، والسعادة العميقة المقترنة بقصدية غائية عليا متسامية على الحاجات البيولوجية Eudaimonia. النوع الثاني من المتعة الأكثر ارتباطاً بموضوعة المعنى والغاية في الحياة. التهديد الوجودي في مجتمع ما بعد الوفرة يكمن في التساؤل التالي: لو أتاحت لنا الوفرة كل شيء مادي نحتاج إليه؛ كيف سنخلق المعنى في حياتنا في غياب التهديد والخطورة والمغامرة وحبّ البحث في المجاهل البعيدة؟! يذكّرني هذا الأمر بالفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر الذي كتب في واحد من مؤلفاته أنّ أجمل سنوات حياته عاشها وهو منخرط في المقاومة الفرنسية ضد النازيين، على الرغم من أنّ حياته حينذاك كانت مهدّدة باحتمال مواجهته الإعدام كل يوم لو كشفته السلطات النازية.

تبدو القضية الفلسفية لسؤال المعنى والغاية في الحياة متمحورة على مواضعة من نوع: المعاناة ضرورية لكلّ حياة بشرية تبتغي معنى وغاية في الحياة. يجب أن نضع في حسباننا أنّ المعاناة ليست شكلاً واحداً؛ فقد تكون ترحُّلاً في عوالم تخيلية. الكتابة مثلاً أحد الأشكال التي نخلق بها معنى وغاية في حياتنا، رغم أنّ فعل الكتابة لا ينطوي على تهديد مادي لحياة الكاتب.

يوردُ بوستروم موضوعة الحرب مثالاً تطبيقياً. نحنُ نتفاعلُ مع فكرة البطولة والتضحية في الحرب؛ لكننا لا نتمنّى الموت لنا أو لأحبائنا في أي حرب. يمكن تمديد فكرة الحرب على أمثلة حياتية كثيرة. السينما مثلاً (وكلّ الأشكال الدرامية): كلما كانت الدراما مشحونة بمعاناة أشدّ كانت أقرب لانتباهتنا واهتمامنا؛ لكنّ نطاق اهتمامنا ينحصر في المديات التي لا نكون فيها عناصر في تلك التجارب الدرامية العنيفة. الأنانية جزء أساسي في الطبيعة البشرية ولا يمكن نكران هذا الأمر إلا مع شخوص قليلين في التاريخ البشري كسروا قيد الأنانية بأمثلة تبدو بطولية لنا.

تنشيط جهازنا الميتافيزيقي

يبدو أنّ التطوّر القادم في نمط حياتنا، بفعل إسقاطات التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي، ستترتب عليه نتائج كبيرة، منها إعادة النظر في هيكلة مفهوم المتعة والمعنى والغاية في حياتنا البشرية. سنكون مدفوعين بفعل واقع الحال، وبسبب انعدام أو ندرة الوقائع الدرامية في حياتنا، إلى تنشيط جهازنا الميتافيزيقي المعطّل منذ عقود طويلة. كانت المعاناة والتضحية والانغماس الشاق في أعمال قد لا نحبها في الغالب العناوين المميزة لعصر ما قبل الندرة، التي بمستطاعها خلق المعنى والغاية. بعد هذا العصر سيتوجّب علينا خلق المعنى والغاية بكيفية ميتافيزيقية ذاتية، وأقصد بالميتافيزيقي هنا أن نخلق المحفزات من غير أن تكون لها بواعث مادية مشخّصة في الحياة اليومية المشهودة. يجب أن نتقن فنّ التحفيز الذاتي.

الندرة أحد المحرّكات الرئيسية لكلّ الأشكال الصراعية في وجودنا البشري: الحرب، العنف، الغزو، السطو...

عن كتاب بوستروم الأخير

لا يكاد بوستروم في كتابه الأخير يحيد كثيراً عن مؤلفاته السابقة التي هي مطوّلات تتطلب كثيراً من الرغبة والشغف في متابعتها. التمايز النوعي للكتاب الجديد عن سابقاته يتمثل في مسألتيْن: الأولى تقديم الكتاب الذي جاء أقرب لقطعة أدبية كتبها أحد الروائيين البريطانيين في العهد الفيكتوري. يصف بوستروم في مقدّمته مشهداً تخييلياً لطفل يتطلع من واجهة زجاج نافذة منزله إلى الثلج المنهمر في الخارج، وهو يفكّرُ في أيام قادمات ستتاح له فيها إمكانية الخروج واللعب بكرات الثلج، والجري فوق الثلج لمسافات طويلة. واضحٌ أنّ بوستروم يسعى من مقاربته التخييلية هذه لمدّ جسور لنا مع عالم ما بعد الندرة: ما نفكّر فيه اليوم ونراه حلماً بعيداً سيأتي بعد حين لن يطول. المسألة الثانية هي تبويب الكتاب. وزّع بوستروم عناوين كتابه على مقالات قصيرة بعض الشيء ضمن فصول ستة تبدأ عناوينها بأحد أيام الأسبوع. البداية بيوم الاثنين والنهاية بيوم السبت. اختار الأحد ليكون يوم راحة كما هي العادة المتبعة، ولعله يريد تذكيرنا بأنّ التقاليد ضرورية في حياتنا، وليس من مسوّغ لمسحها أو إبدالها أو تغييرها مع كلّ انعطافة تقنية جديدة.

الغريب أن يأتي نشرُ الكتاب الجديد لبوستروم متزامناً مع إعلان جامعة أكسفورد عن قرب إغلاق «معهد مستقبل الإنسانية» الذي يديره بوستروم بسبب ضغوطات إدارية (ربما تكون مالية لم تفصح عنها الجامعة). أتمنى ألا تلقى يوتوبيا بوستروم التي بشّر بها في كتابه الجديد نهاية حزينة شبيهة بنهاية المعهد الذي أداره قرابة العشرين عاماً.

يوتوبيا عميقة: الحياة والمعنى في عالمٍ حُلّت معضلاته

Deep Utopia: Life and Meaning in a Solved World

Nick Bostrom

IdeaPress Publishing

536 Pages


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».