كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين تكتب تاريخاً جديداً للعالم القديم

جوزفين كوين
جوزفين كوين
TT

كيف صنع العالمُ الغربَ؟

جوزفين كوين
جوزفين كوين

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».

الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ترى الباحثة البريطانية أن ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة؛ لأنها تتجاهل التاريخ الإنساني المشترك.

جوزفين كوين

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024


مقالات ذات صلة

لا صوت يعلو على صوت القلب

كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي
ثقافة وفنون «نداء القرنفل» لمصطفى موسى

«نداء القرنفل» لمصطفى موسى

صدر حديثاً عن دار «نوفل- هاشيت أنطوان» رواية «نداء القرنفل» للكاتب المصري مصطفى موسى، التي يطعّمها الكاتب بالأحداث السياسية من دون أن تحضر التواريخ بشكل مباشر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق جذبت فعاليات المعرض وأنشطته الثرية والمتنوعة أكثر من مليون زائر (هيئة الأدب)

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

بحلول مساء يوم (السبت) انقضت الأيام العشرة من فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، وتم إسدال الستار على المعرض الذي انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ».

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)

اتفاقية لترجمة الثقافة الصينية ونشرها في الخليج

يشمل الاتفاق ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية التي تعنى بالجانبين الصيني والعربي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك
TT

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد، قسم اللغات الأوروبية، في أواسط السبعينات، وربما هي وراء ذهابي إلى منفاي في ألمانيا. إنها رواية الألماني أريش ماريا ريمارك: «للحياة وقت... للموت وقت» (كما هو عنوان الأصل الألماني) أو «للحب وقت وللحياة وقت»، كما نقلها عن الفرنسية المصري سمير التنداوي، وصدرت عن «دار المعارف» المصرية بجزأين في بداية الستينات.

تدور أحداث الرواية في ربيع عام 1944، تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر، وقصف طائرات الحلفاء الغربيين للعاصمة الألمانية برلين عندئذ بالتوازي مع زحف الجيش الأحمر السوفياتي عليها، قبل سقوطها نهائياً في 8 مايو (أيار) 1945 وانتحار مدمر العالم هتلر قبلها بيومين أو بثلاثة أيام وربما أكثر!

الرواية تروي مغامرة الجندي أرنست غريبير، البالغ من العمر 23 عاماً، الذي يحصل على إجازة غير متوقعة قادماً من الجبهة الشرقية التي كان يقاتل عليها في الحرب العالمية الثانية في وحدة عسكرية تابعة للجيش السادس الألماني. الجندي الشاب غريبير الذي عاش للتو بنفسه هزيمة الجيش السادس على جبهة ستاليننغراد، ورأى الآلاف يموتون هناك، لم يكن يعلم أن عليه أن يعيش حطاماً آخر هذه المرة، حطام مدينته برلين، وكيف ترك قصف طائرات الحلفاء أثره البالغ في المدينة. بيوت محطمة وشوارع محفورة، وأسر مشردة تركت منازلها خوفاً من الموت تحت الأنقاض. حتى أسرته هو نفسه انتهى بها المطاف إلى الهروب من المدينة ومغادرتها إلى مكان مجهول. الجندي أرنست غريبير الذي سيبدأ بالدوران في المدينة مثل غريب، بحثاً عن مأوى أو عنوان لمعارف وأصدقاء له وللأسرة، لن يشعر بالفرحة، بالحياة، إلا بعد أن يلتقي مصادفة بإليزابيث، الفتاة التي انتهى أبوها «الشيوعي اليهودي» إلى معسكر للاعتقال النازي بسبب وشاية.

غلاف الرواية

كم من المصادفات يجب أن تحدث لكي تتشكل حياة إنسان في الاتجاه الذي تريده له الحياة!

أرنست غريبير وإليزابيت، كانا يسيران هائمين بلا هدف عبر حطام وخراب برلين، يتنقلان من مكان إلى آخر، كأنهما يبحثان عن مكان أو شيء لا يستطيعان منحه تعريفاً، وحين تتقاطع خطواتهما مصادفة، كان لا بد لهما أن يقعا في حب بعضهما البعض، وهي مسألة وقت ويقرران الزواج من بعضها البعض، كيف لا يفعلان ذلك، وقد وجد الاثنان السلوى ومعنى للحياة بوجودهما معاً، وهما اللذان تقاسما مائدة يأس واحدة؟ إنهما في مشروع زواجهما لا يفعلان شيئاً غير تلبية نداء القلب، يسيران هذه المرة باتجاه واحد، إلى هدف واحد، حيث يقودهما القلب.

تلك هي المفارقة التي تجعلنا الرواية نعيشها: قصف المدينة يتواصل، القائد المجنون الذي اسمه هتلر ما زال مصراً على تنفيذ جريمته حتى النفس الأخير، يرسل الأطفال في آخر الأيام إلى جبهات الحرب، الناس تهرب، ليس أمامهم غير الموت تحت الأنقاض. فقط هما الاثنان، أرنست غريبير وإليزابيت لا يريدان المغادرة. إلى أين؟ هكذا يطوف الاثنان عبر شوارع برلين وأحيائها، محصنين بحبهما، وهما يلبيان نداء الحواس لا غير، وحين يحل المساء، يبدآن بالبحث عن مأوى يمكنهما اللجوء إليه، النوم تحت سقف يحميهما تحت ظلمة الليل، ولا يهم ماذا يكون المكان، قبواً كان أم خرابة بيت. اثنان غريبان في مدينتهما، يكافحان في سبيل قضيتهما الخاصة بهما، قضية لها علاقة بشؤون القلب، وليس لها علاقة بالوضع العام: الحرب!

إنهما يعيشان في عالمين في الوقت نفسه: النضال في سبيل قضية حبهما من جهة (عندما يقرران الزواج والاحتفال بليلة العرس مع زجاجة شمبانيا!)، ومن الجهة الأخرى الحرب بكل ما تحمله من عبثية وموت وخراب، وحيث لا أحد يوضح مَنْ هو المسؤول عن كل هذا الدمار الذي لحق بألمانيا والألمان، مَنْ هو المذنب في الحرب المدمرة تلك؟ حتى البروفيسور العجوز بولمان (قام بتمثيل الدور في الفيلم المأخوذ عن الرواية أريش ريمارك نفسه)، الذي يعرفه أرنست غريبير منذ أيام المدرسة لا يقدم له أي جواب كعزاء. «الذنب»، يقول بولمان بصوت رقيق، «لا أحد يعرف، أين يبدأ الذنب وأين ينتهي. إذا شئت فإنه يبدأ في كل مكان وينتهي في اللامكان. لكن ربما الأمر هو أيضاً بالعكس. أما الشراكة في الجريمة، فلا أحد يعرف ماذا يعني ذلك؟ الله وحده»، وحين يسأله غريبير مرة أخرى إن كان عليه الالتحاق بالجبهة بعد انتهاء إجازته أم لا، ليكون بهذا الشكل هو أيضاً شريكاً بالجريمة؟ يجيبه العجوز الحكيم: «ماذا أقول لك؟ إنها مسؤولية كبيرة. لا أستطيع اتخاذ القرار لك»، وعندما يلح أرنست غريبير بالسؤال: «هل يجب على كل واحد أن يقرر لنفسه؟»، يجيبه بولمان: «أظن نعم. ماذا يكون غير ذلك؟».

لقد رأى أرنست غريبير وسمع الكثير، «المرء يُقتل من أجل لا شيء في الجبهة»، وهو يعرف الجرائم التي تنطوي عليها الحرب: «الكذب، القمع، الظلم، العنف. الحرب، وكيف نخوضها، مع معسكرات العبودية ومعسكرات الاعتقال والقتل الجماعي للمدنيين». وهو يعلم أيضاً «أن الحرب قد خُسرت»، وأنهم «سيستمرون في القتال فقط لكي تبقى الحكومة والحزب وكل أولئك الذين تسببوا في كل هذا، لكي يبقوا في السلطة لفترة أطول، لكي يكونوا قادرين على التسبب في المزيد من البؤس». مع كل هذه المعرفة، يتساءل عما إذا كان ينبغي عليه العودة إلى الجبهة بعد إجازته، وبالتالي ربما يصبح شريكاً في الجريمة. «إلى أي مدى أصبح متواطئاً عندما أعرف أن الحرب لم تُخسر فحسب، بل أيضاً يجب أن نخسرها حتى تتوقف العبودية والقتل ومعسكرات الاعتقال وقوات الأمن الخاصة وقوات الصاعقة وفرق القتل الخاصة والإبادة الجماعية واللاإنسانية، إذا كنت أعرف ذلك وأخرج مرة أخرى في غضون أسبوعين لمواصلة القتال من أجلها؟».

أي عمل في وقت الحرب غير معني بالحرب هو نوع من المقاومة. في عمل ريمارك، يصبح الحب كفعل إنساني بسيط بمثابة رمز تحدٍ لإحدى «جماليات المقاومة» ضد الديكتاتورية والحرب، لكي نستعير قول بيتر فايس، رائد ألماني آخر، اضطر أيضاً للذهاب إلى المنفى بعد استيلاء النازيين على السلطة. القلب أقدس من الوطن، من أي وطنية اخترعت فقط لإقناع الناس بإرسالهم إلى الحرب ونزف الدم من أجل القرارات التي يتخذها الأقوياء والمتسلطون. مَنْ منا لم يعرف ذلك وهو يقاوم العيش في بلاد وادي الخرابين أو في أي بلاد أخرى عاشت خرائب شبيهة لها؟

لقد مرت سبعون عاماً على صدور الرواية وثمانون عاماً على القصة التي ترويها، وعلى ما حدث من خراب طال مدن ألمانيا، وأولها العاصمة برلين. عندما كنت مراهقاً قرأت عدداً لا يُحصى من الروايات عن الحرب العالمية الثانية، لكن «للحياة وقت... وللموت وقت» وبطلها حفرا نفسيهما بشكل خاص في أعماق ذاكرتي. ربما يكون أرنست غريبير هو السبب الذي دفعني دون وعي إلى رفض الذهاب إلى الجبهة عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر (أيلول)، وأنني تمردت على الذهاب إلى الجبهة وغادرت إلى المنفى، إلى ألمانيا بلد أرنست غريبير وأريك ريمارك؟

تدور أحداث «للحب وقت... للموت وقت» في ربيع عام 1944 تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر

النازيون عرفوا مبكراً قوة روايات أريش ريمارك. إحدى أولى الروايات التي رموها للنار في جريمة حرقهم للكتب في 10 مايو 1933، كانت الرواية الأولى لريمارك «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، رواية مضادة للحرب بامتياز، وكانت إلى ذلك الوقت «بيست سيلر» بيعت بالملايين. ليس من الغريب أيضاً أن يكون أيريش ماريا ريمارك هو أحد أوائل الكتّاب الألمان الذين غادروا ألمانيا مباشرة بعد تسلم هتلر للسلطة عام 1933.

ليس من الغريب إذن أنني أحببت هذه الرواية منذ قراءتي لها وأنا شاب يافع، كأنني كنت أعرف، أن بغداد ستعيش ذات يوم الدمار نفسه الذي عاشته برلين، كأنني كنت أعرف أن دماراً سيلحق بنا جميعاً أينما سنكون، كأنني كنت أعرف أن أجيالاً ستموت في الحروب، وأن أجيالاً أخرى ستأتي، تحلم بالحب، بالزواج، بالسعادة، لكنها ستموت بطلقة طائشة، بقذيفة دبابة أو مدفعية، بقصف طيران يلقي حممه على الجميع أو بصاروخ لا يفرق بين مبنى أو إنسان، بسقف بيت ينهد على الرؤوس ويطمر أسراً بأكملها، كأنني كنت أعرف، أنه لا حاجة لكتابة ما يكفي من روايات الحرب وتذكير أجيال قادمة بماذا تعنيه الحرب، ماذا يعنيه الخراب، كلا، لأن الناس سيعيشون كل ذلك بأنفسهم، بل كأنني كنت أعرف، أن لا أرضاً ولا زاوية في العالم إلا وتتحول إلى ساحة حرب، وأن لا مكان سينجي الناس من الموت تحت قذيفة سلاح مصنع في هذا البلد أو ذاك... وحين تنشب الحرب، أو حين تُطلق قذيفة أو طلقة أو صاروخ ويموت إنسان، ليس من المهم السؤال، طلقة مَنْ هي التي أُطلقت هناك، أو لأي هوية، لأي دين أو لأي قومية دُمغت بها أشلاء قتلى الحروب وصرعى الإطلاقات، كلا، ليس ذلك هو المهم، المهم هو ألا يُقتل إنسان، ومن يقول غير ذلك، ويتغنى منشداً مع العسكر، مدمرين العالم، «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، عليه التعلم من جندي المشاة العاشق أرنست غريبير وحبيبته العاشقة إليزابيت في رواية «للحياة وقت... وللموت وقت»، عليه التعلم: أن أكبر إنجاز إبداعي في أزمان الحرب هو البقاء على قيد الحياة، وأن لا مفر أمامنا، لكي نعيش حياتنا بسلام، من غير أن ننشد بصوت أعلى من كل صوت آخر: «لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه» وكل ما عدا ذلك: هو خراب في خراب.