العنف في العراق من خلال رواياته

دراسة عراقية غطت 33 عملاً منذ 1960 إلى 2003

العنف في العراق من خلال رواياته
TT

العنف في العراق من خلال رواياته

العنف في العراق من خلال رواياته

في دراسته «مدونة العنف في العراق» يبدأ الباحث الدكتور «أحمد حميد» بكلمة لـ«حنة آرنت» «كلُّ انحطاطٍ يُصيبُ السلطة إنما هو دعوة مفتوحة للعنف»، ممهداً لقضية انغراس العنف عميقاً في سلوكيات المجتمعات الشرقية، وكان للمجتمع العراقي النصيب الأكبر من هذا العنف الذي غيّر موازين القوى الاجتماعية والسياسية فيه، وبسببه اهتزت المنظومة القيمية نتيجة أنواع العنف المادي والمعنوي الذي مورس بحق العراقيين من قبل السلطات الحاكمة على مدى عقود من الزمان.

يذكر الدكتور «حميد» في مقدمة دراسته أن الرواية العراقية مثلت «العنف» خير تمثيل من خلال سردها الزاخر لمختلف مستوياته. وهذه الدراسة تغطي العنف في الرواية العراقية من عام 1960 إلى 2003، لأنها الحقبة الأبرز في تفشي العنف، وكذلك لظهور نتاج روائي كبير يغطي تلك المرحلة، وما بها من أحداث مرعبة وموت وسجن وانتهاك لحقوق الإنسان.

ولأن المفاهيم والمصطلحات هي مفاتيح كل دراسة، فقد أعطانا «الباحث» مفتاحاً له ثلاث حركات؛ الحركة الأولى تعريف العنف لغوياً، والحركة الثانية توصيف العنف فلسفياً، والحركة الثالثة تحليل العنف اجتماعياً، ثم ينفتح على تعريف شامل بأنه: «السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً، كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره». وفضلاً عن «العنف المادي» الذي سادَ المجتمع فقد كان إلى جنبه عنفاً معنوياً ورمزياً لم يبخل الباحث في تسليط الضوء عليه، لما فيه من أهمية في تكامل الرؤية الفلسفية والاجتماعية.

تكونت الدراسة من ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول العنف الذي طال الشيوعيين والقوميين والبعثيين والإسلاميين والمستقلين، وتناول الفصل الثاني العنف الذي نال من المرأة، وتناول الفصل الثالث عنف الحرب، لا سيما الحرب «العراقية - الإيرانية»، وحروب أخرى.

وتناولت الدراسة 33 رواية مثلت عينة السرد الروائي في تلك العقود المتسمة بالعنف، بوصفها متميزة برؤية فنية عالية، واتجاهات فكرية، وموضوعات واقعية متصلة بالصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، وبالوقت نفسه برؤية نقدية ساردة للوجع العراقي، وموجهة الرأي العام صوب هذه الانتهاكات الإنسانية، وهذا ما يتميز به الأدب، فليس الأدب للأدب، وإنما الأدب للمجتمع، وقضاياه المصيرية.

منهج الدراسة

ولأن لكل دراسة منهجاً يمكن عبره تحليل موضوعات الدراسة المطروحة، اختار «الباحث» منهج «البنيوية التكوينية» لـ«لوسيان غولدمان»، (1913 - 1970)، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، والمنظر الماركسي. ويتكون هذا المنهج من آليات للتحليل تتمثل أولاً في الفهم والتفسير، وثانياً في البنية الدالة، وثالثاً في الوعي القائم والوعي الممكن، وأخيراً في الرؤية إلى العالم. وحول الإجراء الأخير «الرؤية إلى العالم»، ذكر الباحث جملة من المفكرين الذين اهتموا بهذا الإجراء التحليلي، قبل «غولدمان»، ومنهم دلتاي، ولوكاتش، وهيغل، وماركس، وغرامشي، ولكنه أغفل عالم الاجتماع ماكس فيبر، وعالم الأنثروبولوجيا البريطاني «روبيرت ريد فيلد» اللذين اهتما كثيراً بالرؤية إلى العالم، بوصفها نظرية مفسرة للواقعات الاجتماعية.

العنف السياسي

تأتي البداية من عقد الستينات بوصفه العقد الذي انتعشت فيه الرواية فنياً، وانطلق منه التنوع والتطور السردي والتقني للرواية المحلية، ووثقت فيه ثقافة العنف الذي بدأ بالانتشار في الأوساط الاجتماعية وما يلحق به من تفاصيل وأحداث متباينة. فكانت رواية «غائب طعمة فرمان» المعنونة «خمسة أصوات»، التي تعد أول رواية متعددة الأصوات، والتي وثقت فيضان نهر دجلة عام 1954، وسجن نقرة السلمان، الذي يعد بمثابة العنف في ذلك العقد، فضلاً عن سقوط حكومة فاضل الجمالي (1953 - 1954). وتسرد الرواية العنف السياسي في تلك المرحلة من خلال شخصية طالب الشيوعي، وصديقه سعيد، إذ يكشف النص الروائي عن ثقافة الاستبداد، ومناكفة الخيار الشعبي الديمقراطي. وتحدث الفصل عن رواية «الثلاثية الأولى»، لكاتبها «جمعة اللامي»، ومشاهد العنف فيها، ورواية الكاتب «نجم والي» المعنونة «مكان اسمه كميت»، التي توضح العنف ضد المرأة اليسارية في تلك الحقب، فضلاً عن روايات أخرى لروائيين من أمثال: «عبد الرحمن مجيد الربيعي، وفاضل العزاوي، وزهير الجزائري».

العنف ضد المرأة

وتناول «الفصل الثاني» العنف المرتبط بالمرأة من خلال رواية «حبات النفتالين» لـ«عالية ممدوح» الصادرة عام 1986 وكيفية ضياع العائلة، في ظل سلوك الأب القمعي والعنيف. وكذلك رواية «أطراس الكلام» للروائي «عبد الخالق الركابي»، وهي رواية تكشف عن العنف الدائر بسبب الحرب، وخصوصاً حرب ما يسمى بـ«عاصفة الصحراء»، لإخراج قوات الجيش العراقي من الكويت عام 1991، وتأثير الحرب على البنية الاجتماعية للعائلة العراقية. وكذلك رواية «الخراب الجميل» للروائي «أحمد خلف»، التي توضح العنف الأسري ومظلومية المرأة من خلال شخصية «الكنة»، فضلاً عن روايات أخرى مثل «المستنقعات الضوئية» لـ«إسماعيل فهد إسماعيل»، و«الجسور الزجاجية» لـ«برهان الخطيب»، والعنف تحت مسمى الشرف العائلي.

وتناول الفصل الثالث عنف الحرب من خلال رواية «الحافات» للروائي «محمود جنداري» الصادرة عام 1985، وهي تؤرخ للعنف الدائر في الحرب «العراقية - الإيرانية»، وهموم وأوجاع الإنسان ومعاناته فيها، وكذلك رواية «ألواح» لكاتبها «شاكر الأنباري» الصادرة عام 1995، وهي تتناول موضوع الهروب من الحرب، التي هي أبرز مواطن العنف الحربي في تلك الحقبة.

وكذلك رواية «باب الخان» للروائية «هدية حسين»، التي تناولت الحرب بشكلٍ واسع ومشاهد العنف فيها، فضلاً عن روايات أخرى مثل «من يفتح باب الطلسم» للروائي «عبد الخالق الركابي»، ورواية «الخروج عن الجحيم» لـ«ناطق خلوصي»، وجلها تتحدث عن العنف ومشاهد الصراع والحرب في الساحة العراقية، وما يتعلق بها من أنساق تاريخية وثقافية واجتماعية.

ويخلص الباحث في نهاية دراسته إلى جملة من النتائج، منها أنه رغم مناخ الدولة المدنية في العراق فإن التعصب والعنف الجندري، والتمايز الطبقي، والعرف القبلي هو السائد، كما أن هذه الروايات هي خير من يؤرشف للصراع والحرب والعنف في أي مجتمع، وخصوصاً في المجتمع العراقي.

ولا شك أن مثل هذه الدراسات وغيرها مما يتعرض لدراسة الأدب الروائي العراقي من شعر وقصة ورواية، لا تقل أهمية عن أي دراسة تتعلق بتطور وتنمية المجتمعات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

* ناقد عراقي


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.