فيصل بن عبد الرحمن بن معمر
- الأمين العام لـ«مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات»
TT

عاشوراء رمز للإخاء الديني والتعايش المشترك

يحتفي المسلمون، بيوم عاشوراء كل عام؛ اقتداءً بسنة المصطفى ()؛ وتعظيماً لهذا اليوم الذي نجّى فيه الله تعالى، نبي الله موسى، عليه السلام، وقومه من الغرق؛ بوصفه يوماً من أيام الله التي ينبغي التذكير بها؛ وتوكيداً على ترابط الأديان، وتلاحم الأنبياء، وتوافق رسالاتهم؛ ما جاء في الحديث: «الأنْبياءُ أوْلادُ عَلاتٍ؛ أُمهاتُهُمْ شَتى، ودِينُهُمْ واحِدٌ»، أي الأنبياءُ أُخُوتُهم هي في النبوة وليس في الدم؛ فأبوهم في النبوة، واحد وهو آدم عليه السلام؛ وشرائعهم مختلفة. وليس أدل أيضاً على ذلك الترابط بينها وتلاحم أنبيائها؛ ما ورد عن النبي () عندما قَدِمَ المدينة المنورة، وما رآه من صيام اليهود لذلك اليوم شكراً لله تعالى على نجاة موسى، وقوله () تلك المقولة الخالدة: «نحن أحق بموسى منهم»؛ فصام () ذلك اليوم وأمر بصيامه.
إن نظرة متأملة ومتدبرة في مقاصد هذه الدعوة النبوية الكريمة؛ تؤكد نتيجة غاية في الأهمية: التسامح الضارب بجذوره في التشريع الإسلامي، والدعوة لترسيخ الإخاء الديني، ليس في المجتمع المسلم فحسب، وإنما الإنساني كافة؛ وتأصيل فضاءات التوافق بين هذه الشرائع السماوية؛ وحُسن إدارة مواطن الاختلاف بالحوار وأدوات التناظر العلمي السليمة؛ وتعزيز سبل العيش المشترك في سلم وسلام وأمن وأمان؛ إعماراً للأرض وبناءً للسلام؛ وتكريساً للإخاء الديني خاصة والإنساني بشكل عام. وسعياً لعدم إقصاء الآخر ومحوه؛ والتعايش معه وفق معتقده سواء وافق الإسلام أم خالفه، كبديهية أولية، وأساس التعامل والتعايش مع الآخر في المجتمع المسلم.
لقد أعطى الإسلام اهتماماً كبيراً بيوم عاشوراء، وخصه بعبادات، كالصيام؛ حيث تخصص معظم جوامع الجمعة في المملكة العربية السعودية وسائر العالم الإسلامي في كل عام وأبرزها: الحرمان الشريفان - تخصص خطباً لهذا اليوم؛ تذكيراً بقصة عاشوراء الملهمة وصيام المسلمين، حيث لا يكاد يخلو بيت في المملكة والعالم الإسلامي من صيام هذا الْيَوْمَ؛ ما يعطي إشارات ودلائل مهمة على تقوية وتنمية العلاقات بين المسلمين وارتباطهم بالأنبياء والرسل من ناحية، وبينهم وبين أتباع الأديان والثقافات الأخرى من ناحية أخرى.
كما اجتهدت المصنفات الفقهية، وشغلت مساحات كبيرة منها في بيان حقوق غير المسلمين على المسلمين؛ استلهاماً لوثيقة المدينة، أول دستور للدولة المدنية، يؤطر دولة الإسلام الناشئة، لا يفرق بين مواطنيها من حيث الدين أو العرق أو الجنس، أو اللون؛ ارتكازاً لعلاقة الإسلام، بالأمم والشعوب وأتباع الأديان والثقافات الأخرى، التي تقوم على التعارف والحوار والالتقاء، لا الاختلاف والصراع والتفرق، واعتبار هذا التعارف؛ علة في خلق الناس شعوباً وقبائل مختلفة؛ ولذلك أمر الله به كغاية من غايات هذا التنوع في الخلق: يَا أَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...، بينما يشكل نقيضه، انحرافاً عن جادته، انطلاقاً من أسس التراحم الإنساني المشترك؛ لذلك يأتي هذا الْيَوْم التاريخي، وصومه في إطار وسائل الإخاء الديني عملياً؛ ما يشي بأن المسلمين يقدرون السلام والتعايش واحترام الديانات وحرمة الأنبياء.
وإذا كان المسلمون كذلك؛ فإن هذا الاعتقاد الرباني بمحبة موسى وعيسى، جنباً إلى جنب مع جميع الأنبياء والمرسلين، لارتباط الإيمان بهم، عليهم السلام؛ يقتضي التوقير التام لرسالاتهم وكتبهم. وعندما حمى الإسلام الأنفس والأعراض؛ لم يجعل ذلك حكراً على المسلمين وحدهم؛ إنما لهم ولغيرهم على السواء؛ لأن هذه الحقوق خاصة بكل المواطنين حتى ولو كانوا مخالفين في العقيدة...
ولأن الأنبياء يجمعون البشر، وشياطين الإنس تفرقهم؛ فإنني أدعو خلال الاحتفاء بهذا الْيَوْم، الذي يجمع بين أتباع هاتين الديانتين، ويحمل في طياته وأعماقه ما يكفي لنشر العدل والسلم والتسامح والتعايش، أن يتخلص المحتلون من ظلمهم، ومن استخدام الدين لمآرب احتلالية، وكذا المتطرفون من الجانب الآخر من استخدام الدين لتبرير الإرهاب وارتكاب الجرائم والدين منهم براء؛ أو استغلال الدين لنشر التطرف والإرهاب، والكف عن التناقض الواضح بين انتهاج مبدأ العنف المغاير شكلاً وموضوعاً لأصل ومغزى الرسالة السماوية.
وما أجدر أتباع هاتين الديانتين من المحبين للسلام والتعايش والرحمة، أن يستثمروا أجواء هذا اليوم المبارك، واستلهام الدروس والعبر والمعاني السامية، التي اختطها رسولنا الكريم().
إن تعظيم الأزمنة التي اختصها المولى، عز وجل، لخلقه: شكراً وفضلاً وذكراً وإنعاماً وإكراماً وفرحاً وسروراً؛ جنباً إلى جنب، لها أكثر من دلالة واضحة على تعزيز قيم التعايش وإرساء مبادئ العيش المشترك على أسس مستقرة دينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، قائمة على تعميق المشترك الإنساني ومراعاة بناء العلاقات الإيجابية، وتوطيد الصلات؛ وتوكيد الإحسان المتبادل بوجه عام؛ حيث لم يكُن صيامه () لعاشوراء تشبيهاً مذموماً أو مشاركة مخالفة لعقيدة التوحيد؛ كونه صياماً واقعاً على سبيل (الموافقة على السبب؛ شكر المنعم سبحانه على إنعامه وإحسانه على أهل الفضل والصلاح وعلى البشرية في هذا اليوم المبارك).
أدعو الله، جل وعلا، أن يجعلَ من هذا اليومَ العظيم فرصة مواتية لاستلهام روح عاشوراء، في ظلال ما علمنا له خير البرية () بمحبة نبي الله موسى، عليه السلام، وما أكرمه الله به كقدوة للبشرية؛ فهل ينصت العقلاء والأخيار لنداء السلام والتعايش في أرض الرسالات؛ ليعم العدل ويسود السلام بديلاً عن الظلم والاحتلال والعنف والتطرف والإرهاب؟!
* المشرف العام على مشروع سلام للتواصل الحضاري - الرياض