لا مفر من الحديث الأوكراني. يتصدر النشرات ويغزو الشاشات ويهيمن على التعليقات. فتحنا الخرائط وصرنا نبحث عن مواقع تحرك الدبابات والجنود في البحر وعلى الحدود. دول الغرب تستعد وكأنها ذاهبة للمنازلة الكبرى. وموسكو تحشد القوات وترفع سقف التهديدات. بوريس جونسون الغارق في مستنقع الحفلات وجد في أزمة أوكرانيا حبل إنقاذ. وماكرون وجدها فرصة لقيادة أوروبا وحقه في زعامة فرنسا على أبواب الانتخابات. رسائل متبادلة وإنذارات بالجملة من كل الجوانب. بلد كان منسياً قبل ثماني سنوات صار الآن وجهة الاهتمام العالمي. برلين جديدة، من دون جدار حتى الآن، تعيد إلى الأذهان صور الحرب الباردة، التي يمكن أن تصير حارّة في أي وقت. مراسلون أجانب يتدفقون على العاصمة كييف ليتابعوا عن قرب سير الاستعدادات، وكأنهم ينتظرون تسجيل سابقة تاريخية في مذكراتهم: كنا هناك عندما انطلقت الرصاصة الأولى. تماماً مثل أولئك الذين رافقوا الدبابات الأميركية وهي تتقدم عبر المناطق الكردية باتجاه بغداد، أو الذين كانوا على طائرة الخميني في رحلته من نوفل لو شاتو إلى طهران، أو الذين شاهدوا الانسحاب المذلّ للقوات الروسية أمام تقدم «المجاهدين» في جبال أفغانستان وأوديتها.
كل ذلك والأوكرانيون غارقون في همومهم اليومية. وكأن هذه المواجهة إذا حصلت سوف تجري في مكان آخر، وليس على أرضهم. ولا أدري من أين جاءتهم هذه الثقة بقدرتهم على المواجهة والانتصار، وهم الذين خسروا جزيرة كاملة من أرضهم قبل ثماني سنوات، ولم يرف للعالم جفن، سوى بيانات الاستنكار واتفاق مينسك لوقف إطلاق النار الذي صار حبراً على الحدود؟
يمكن أن تسميها عملية عض أصابع أو عرض عضلات، هذه العملية الجارية الآن بين رجلين قادمين من عالمين مختلفين. من سيكون صاحب العضلات الفتية ومن سيصرخ أولاً؟
جو بايدن، القادم من مدرسة الدبلوماسية وسياسة التسويات منذ بدأ نشاطه في لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس. رجل ذاق مرارات المصائب العائلية والنكسات السياسية. تسلق السلّم إلى أن وصل إلى شراكة باراك أوباما في إدارة البيت الأبيض، بعدما خانه الحظ أكثر من مرة في الفوز بجائزة تمثيل الحزب الديمقراطي في معركة الرئاسة، إلى أن جاءت الفرصة لهزيمة ذلك الفوضوي العارم، نجم الشاشات ولصيق «تويتر»، دونالد جون ترمب.
... وفلاديمير بوتين، من عصر الاستخبارات وتدبير الاغتيالات والمؤامرات. خبير مزمن في اختيار الجواسيس وفي نصب الكمائن. مثل يتيم حرمه الانهيار الكبير للإمبراطورية الشاسعة من دفء المظلة التي كانت تشمل برعايتها نصف القارة الأوروبية، ومعظم الجيران في القارة الآسيوية، وتمد أقدامها إلى البحر الأسود وبحر قزوين وصولاً إلى شواطئ المتوسط. يتيم يسعى لاستعادة إرث الوالدين الذي ضاع.
كان بايدن يفضّل ألا يصطدم بالأزمة الأوكرانية. رجل يفضّل التسويات على المواجهات. انسحب من أفغانستان وتركها بين أيدي «طالبان» ووعود لشعبها بأن تلك الجماعة الآتية من ثقافات القرون الوسطى قد «تغيرت»، وستحسن هذه المرة معاملة النساء وستسمح بإرسال الطالبات إلى المدارس وإلى أماكن العمل. وبالطبع لم يصدّق أحد تلك الوعود المزهرة. وها هي أفغانستان تدفع الثمن جوعاً وفقراً وبطالة متفشية.
ووعد باتفاق نووي مع إيران على أنقاض الاتفاق الذي قضى عليه ترمب. والتزم بإشراك دول الإقليم في المفاوضات الجديدة، باعتبارهم الضحايا المباشرين الذين يعانون من نتائج التمدد الإيراني، وها هي النتيجة أمامنا في قصر كوبورغ في فيينا. وفود تذهب وتعود. وصيغ اتفاق من هنا وهناك. ومساع أميركية لنظرة حنان من مفاوضي طهران. ولا تأتي من عبداللهيان سوى الردود العابسة والاشتراطات المستحيلة.
بوتين الذي يحسن اختبار الخصوم ويعرف تحديد الساعة المناسبة للانقضاض وجد فرصة سانحة. هروب أميركي من أفغانستان وخنوع أمام شروط إيران، وانسحاب كامل من الأزمة السورية بعد جريمة «الخط الأحمر» التي ارتكبها أوباما. ماذا لو تقدمت القوات الروسية بعشرات الآلاف من جنودها إلى حدود أوكرانيا، في اختبار قوة لما يمكن أن يفعله ساكن البيت الأبيض؟
ارتكب بايدن «هفوة» تعبّر، بلغة فرويد، عن حقيقة ما يجول في خاطره، عندما قال إن «غزواً بسيطاً» من قِبل القوات الروسية يمكن أن يؤدي إلى خلاف بين القوى الغربية حول طبيعة الرد. وهو ما فهمه الأوكرانيون على أنه ضوء أخضر للغزو «المحدود». إلى أن جاء «التصحيح» الأميركي بالتأكيد أن هذا ما لم يقصده الرئيس. ثم كان التهديد الصريح لبوتين بعبارات متشددة، عندما قال بايدن، إن أي غزو روسي لأوكرانيا سيكون سابقة لم تحصل منذ الحرب العالمية الثانية وسيغير وجه العالم. وبعده جاء الرد المكتوب الذي أرسله وزير الخارجية بلينكن إلى القيادة الروسية بشأن مطالبها الأمنية. وكان رداً واضحاً على رفض موسكو لعضوية أوكرانيا في حلف الأطلسي: باب الحلف مفتوح لأي دولة تريد الانضمام، وقرار الموافقة في يد قيادة الحلف وأعضائه، وموسكو لا تملك «فيتو» في هذا الأمر، وكذلك فيما يتعلق بعضوية الدول الأخرى التي انضمت إلى الحلف، بعدما كانت جزءاً من محور موسكو في أوروبا الشرقية. ولم يكن مفاجئاً بالتالي أن تعتبر موسكو أن هذا الرد الأميركي لم يأخذ وجهة نظرها في الاعتبار.
من يصرخ أولاً في عملية عض الأصابع؟ لا شك أن بوتين يدرك مخاطر المواجهة ويعرف التكاليف الباهظة للغزو. ربما كان مغامراً، لكنه بالتأكيد ليس انتحارياً. لا تزال في جيبه ورقة التسوية الممكنة وسبيل التراجع من دون إهانة، من خلال الزعم أن الغزو لم يكن أصلاً بين أهدافه. خيار يفضله بايدن ومَخرج يمكن أن يجنّب الرجلين هذه التجربة الصعبة.
غير أن النزاع حول مستقبل أوكرانيا، وكيفما تطور، سلماً أو مواجهة، فإن نتيجته ستكون مؤشراً لاتجاه الصراعات الأخرى، التي تصطدم فيها موسكو مع واشنطن، سواء مباشرة أو من خلال الحلفاء. من أزمة النووي الإيراني إلى الصراع الأميركي - الصيني، إلى مستقبل النفوذ الأميركي في أقاليم الشرق الأوسط. مبارزة أوكرانيا ليست بالتالي محصورة بهذه المساحة الضيقة. ومن هنا يمكن الاتفاق مع جو بايدن على أنها ستغير صورة العالم.
TT
عض أصابع على حلبة أوكرانيا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة