سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الراية السياسية التي سيكون على أديب نوبل أن يحملها!

اعتذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن خوض السباق الانتخابي الذي جرى في السادس والعشرين من الشهر الماضي، فصارت تُوصف في الإعلام بأنها المستشارة المنتهية ولايتها، وأصبحت تقف في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة، لتنصرف إلى بيتها، حيث ستفكر هناك في لا شيء، على حد تعبيرها عندما سألوها عما ستفعله بعد المغادرة.
وفي هذا الشهر أعلنت لجنة جائزة نوبل في السويد، فوز الكاتب التنزاني عبد الرزاق غورنا بالجائزة في مجال الأدب.
والذين طالعوا شيئاً من سيرة غورنا، اكتشفوا أنه تنزاني من حيث النشأة وفقط، ومن حيث الأصول ولا شيء غير ذلك، لأنه إذا كان يخطو اليوم نحو الثالثة والسبعين من العمر، فلقد غادر أرخبيل زنجبار التنزاني في نهاية الستينات من القرن العشرين.
والمعنى أن وعيه تفتح في بريطانيا التي هاجر إليها في ذلك الزمان البعيد، ثم المعنى أيضاً أن تنزانيا بالنسبة له تبدو صورة شاحبة المعالم لا يكاد يظهر فيها ملمح واضح. ولكن هذا على كل حال يظل قصة أخرى، وهي قصة تطرح سؤالاً عما إذا كان من الممكن النظر إلى جائزته على أنها جائزة للقارة السمراء المتمثلة فيه، باعتباره واحداً من أبنائها الذين يتحدثون لغاتها المتعددة، أم أنها جائزة لبريطانيا التي يتكلم لغتها ويكتب بها منذ ما يزيد على نصف القرن؟!
سبب السؤال أن منصات إعلامية راحت تقارن بينه بعد فوزه، وبين نجيب محفوظ الذي حاز الجائزة نفسها في 1988، وكان أساس المقارنة أنهما ينتميان إلى أفريقيا، وأن مصر وتنزانيا يجمعهما حوض واحد في القارة هو حوض نهر النيل، وبينهما بالتالي أكثر من رابط على مستوى القارة والحوض، ولو توقفت المقارنة عند هذا الحد فلا مشكلة تقريباً.
المشكلة سوف تنشأ إذا كان أساس المقارنة هو انغماس كل واحد منهما في قضايا مجتمعه العريض بالدرجة نفسها، والكيفية ذاتها. هنا سوف لا تستقيم المقارنة، وسوف تكون غير متكافئة، لأن محفوظ الذي عاش 95 سنة، قضاها كلها في بلده فلم يغادره في حياته سوى ثلاث مرات، إحداها كانت إلى اليمن، والثانية جاءت إلى يوغوسلافيا، والثالثة كانت إلى لندن للعلاج، ولولا حاجته إلى العلاج لكان دفتر أسفاره قد اقتصر على اليمن ويوغوسلافيا اللذين زارهما شبه مضطر.
فأين هذا من عبد الرزاق الذي لم يبدأ الكتابة إلا بعد أن غادر بلاده، والذي يقيم في بلاد الإنجليز ولا يغادرها إلى بلده الأم، إلا لزيارة هي أقرب إلى زيارة السائح العابر منها إلى أي شيء آخر؟!
ومع ذلك، فليس هذا هو موضوعنا الأساسي، لأن الموضوع هو تلك الصلة الخفية التي جعلت مغادرة ميركل دار المستشارية تأتي في سبتمبر (أيلول)، وجعلت فوز غورنا يأتي في أكتوبر (تشرين الأول)، وجعلت ملفاً محدداً من الملفات الدولية المثارة هذه الأيام في أرجاء الأرض، يربط بينهما من دون سابق موعد وبغير سابق اتفاق.
وقد بدا الأمر في إطاره العام، وكأن الأقدار قد رتبت أن تسلم المستشارة المنتهية ولايتها أوراق الملف إلى أديب نوبل، الذي سيكون عليه أن يتولاه كما فعلت هي، أو على الأقل يحتفظ به في عهدته إلى أن يبعث الله له سياسياً أوروبياً آخر في قوة المستشارة المغادرة وفي بأسها!
الملف هو ملف الهجرة إلى أوروبا ولا ملف سواه، والذي لا تزال موجاته الأفريقية وغير الأفريقية تضرب أوروبا على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط.
ورغم أن ألمانيا لا تطل على هذا البحر، فإنها كانت تقريباً صاحبة النصيب الأكبر من المهاجرين الذين تدفقوا على أراضيها، وكان تدفقهم أو حتى السماح بعبورهم إلى أرض الألمان موضع خلاف كبير بين ميركل، وبين بقية الساسة في بلادها. كانت هي تتحمس لاستقبالهم، وترحب بوجودهم، وتصرف لهم المساعدات والإعانات، وتعمل على دمجهم في البلد وفي نسيجه العام، وكان الساسة المنافسون على الجانب الثاني لا يرحبون، ولا يشجعون، ولا يرون في المهاجرين ما يستدعي المساعدة، أو يستوجب الاستقبال والمساندة.
لم تكن المستشارة تتنازل عن رأيها، ولا كانت تتراجع عن سياستها المعلنة، وسواء كانت تفعل ذلك عن أسباب سياسية أو إنسانية، فإن الحصيلة كانت واحدة في الحالتين، وهي أن مهاجرين لجأوا إلى ألمانيا مرغمين، وأنهم صادفوا سياسية قوية مثل ميركل تحنو عليهم، وتتلقاهم، وتفتح أمامهم الأبواب!
وهناك بالطبع كثيرون يقدمون الأسباب السياسية على الإنسانية، عند تقييم السياسة الميركلية في هذا الملف، وهؤلاء الذين يرون هذا الرأي يبررون رأيهم فيقولون إن نسبة العجائز بين الألمان كبيرة، وأن الذين يستطيعون العمل بينهم قليلون، وأن ذلك كان يقلق المستشارة التي رأت في مجيء المهاجرين حلاً مؤقتاً يسعف سوق العمل إلى أن يكون في الإمكان حل آخر.
وهذه وجهة نظر صحيحة نظرياً، وهي منطقية في مجملها، والأرقام في التركيبة السكانية الألمانية تدعمها وتؤيدها، ولكن الحقيقة أن ميركل لم تتحدث فيها، ولم تتوقف عندها، وكانت تميل إلى الجانب الإنساني في الموضوع، إذا ما وجدت أن عليها أن تبرر ترحيبها بالمهاجرين.
ومن الوارد أنها كانت تهدف إلى شيء من وراء ترحيبها بهم، ثم تتحدث عن شيء آخر سواه عند الضرورة، ولكن ما يهمنا في القضية هو الظاهر منها، لا المختبئ في النوايا وراء الأستار.
وقد كشف غورنا بعد فوزه عن أنه يؤمن في الموضوع، بما تؤمن به المستشارة في مسألة المهاجرين بالضبط، فأطلق عبارتين كانت كل عبارة منهما كفيلة بأن تضعه إلى جوار ميركل رأساً برأس في نظر كل مهاجر، لولا أن أحداً لم يكن ينتبه إلى رأيه قبل أن تأتيه نوبل التي ركزت عليه الأضواء، وجعلت كل كلمة ينطق بها تأخذ طريقها إلى صدر الشاشات والصفحات!
قال في عبارتيه إن المهاجر يبقى ثروة في حد ذاته، وإنه لا يذهب إلى ألمانيا ولا إلى سواها من دول أوروبا فارغ اليدين، وإنما يذهب وعنده ما يقدمه بالفعل إلى البلد الذي يهاجر إليه، وإن هذه النظرة هي التي لا بد أن تحكم الأوروبيين إذا ما تطلعوا إلى أعداد المهاجرين.
ومن بعد ميركل حين تتشكل الحكومة الجديدة في برلين، سوف لا يجد المهاجرون أحداً من الساسة في القارة العجوز يتطلع إليهم كما كانت المستشارة تفعل، وسوف لا يكون في العالم صوت مسموع يتبنى هذه النظرة ويدافع عنها، اللهم إلا عبد الرزاق غورنا، ليس لأنه كاتب تنزاني أو حتى بريطاني، وإنما لأنه حائز نوبل التي ستعطيه أهمية منذ اليوم، وستعطي كلامه أهمية أيضاً، وستجعل ما يقوله محل إنصات سواء كان في قضية الهجرة أو في غيرها من القضايا.
هذا ما سوف يظل يربط بين السياسية الألمانية الشجاعة، وبين أديب نوبل الذي سيكون عليه أن يخلفها في شجاعتها، ثم في إيمانها بالقضية التي عاشت سنين تتحصن في موقع الدفاع عنها، وسيكون عليه أن يحمل رايتها إلى حين على المستوى السياسي بالمعنى المباشر، وسيكون ذلك مضافاً إلى المستوى الأدبي لديه كما عاش يفعل منذ أن بدأ يكتب!