كانت السيدة جيهان السادات حاضرة بيننا على مدى أربعة عقود مضت، ولكن هذه هي المرة الأولى التي تغيب عنا إلى العالم الآخر بعد أن غادرتنا إليه في صيف هذه السنة.
فمنذ اغتيال الرئيس السادات في مثل هذا الشهر من 40 سنة، كانت جاهزة تتحدث كلما حل الشهر، وكانت تتجلى كلما تكلمت، ليس فقط عن النصر الذي صار قريناً للشهر، ولكن عن زوجها الذي رأته يسقط أمامها برصاص الغدر في أثناء العرض العسكري الذي أقيم في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981.
وسوف يفتقدها محبوها بالتأكيد، فلقد عاشوا على امتداد العقود الأربعة يقولون عنها إنها «أم الأبطال»، وكان اللقب راجعاً إلى أنها كانت في أيام الحرب تدور على المستشفيات تداوي الجرحى وتخفف من أوجاع المصابين.
وقد كانت لديها من الحكايات عن الشهر وعن النصر ما لا ينفد ولا ينضب، وكانت تحكي في كل مرة فتبدو وكأنها تفعل ذلك للمرة الأولى، وكان مرجع محبة الناس لها أن فيها شيئا من رائحة السادات، وأنها كانت تحظى بدرجة من القبول من الصعب أن تحوزها سيدة مثلها.
وقد بقي هذا الشهر شهراً للسادات بامتياز، ولماذا لا يكون كذلك كلما دار العام دورته، إذا كان الرجل، يرحمه الله، قد محا فيه عار الهزيمة التي حلت بنا في الخامس من يونيو (حزيران) 1967؟ ففي ذلك اليوم من ذلك العام، وبالتحديد في التاسعة إلا الربع في الصباح منه، ثم في الأيام الستة التالية له، جرى احتلال سيناء، والضفة الغربية، والقدس، وغزة، والجولان!
ولأنه رجل عسكري في الأساس، ولأن الالتزام والانضباط من الصفات العسكرية التي لم تكن تفارقه، فلقد أحس منذ اليوم الأول له في السلطة عام 1970 أن عليه التزاماً باستعادة الأرض مهما كان الثمن، وأن الانضباط هو سبيله إلى تحقيق هذا الهدف.
وحين اتخذ قرار الحرب، كان قراره أن لا رجعة عنه إلا بعد أن يسترجع ما جرى احتلاله، كله، لا بعضه، وكان يقينه أن الحرب وقتها هي مواجهة عربية إسرائيلية، أكثر منها مجرد مواجهة مصرية إسرائيلية. ولا بد أن استرجاع تفاصيلها في أي وقت يقول هذا ويؤكده، لولا أنه في مرحلة من مراحل الحرب اكتشف أن الدبابات الأميركية كانت تأتي من واشنطن مزودة بالذخيرة والوقود، وأنها كانت تنزل في العريش مستعدة لتقاتل مع الإسرائيليين، فكانت الشجاعة تقتضي منه أن يراجع القرار لأن المواجهة لم تعد متكافئة.
وكان قراره بعدها أن ما لم يرجع من الأرض بالحرب يمكن استرجاعه بالسلام، وأنه لا بديل عن ذلك ولا خيار آخر، اللهم إلا إذا كان للإسرائيليين رأي مغاير، وخطابه في الكنيست الإسرائيلي يقول هذا أيضاً ويؤكده.
كان قد بادر بزيارة دمشق قبل أيام من زيارته إسرائيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 لكن الرئيس حافظ الأسد كان له رأي آخر، ومن يدري؟!... ربما لو كان الأسد قد استوعب ما ذهب السادات يعرضه عليه، لكانت الجولان اليوم في أحضان الوطن الأم، بالضبط كما أصبحت سيناء وصارت!
كان لدى السادات هدف منذ اللحظة الأولى في الحكم، وكان الهدف أن تعود سيناء مهما كان حجم التضحيات، ولم يكن يفرق بين سيناء وبين باقي الأراضي العربية المحتلة، وكان يرى في استعادتها أولوية يجب ألا تنافسها أولوية سواها.
في مفاوضات كامب ديفيد 1978 بدت لأعضاء الوفد المصري مخاوف كثيرة، وتركزت مخاوفهم في أن تكون السيطرة المصرية على سيناء بعد عودة ما تبقى منها سيطرة غير كاملة، وكان نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية السابق، عضواً في الوفد المفاوض، وكان هو الذي ذهب نيابة عن الوفد يعرض مخاوفه ومخاوف زملائه على السادات في مقر إقامته.
استمع إلى مخاوفه في هدوء، ثم سأله: هل قلت كل ما عندك با ابني؟! أجاب الأمين العام للجامعة السابق: نعم يا سيادة الرئيس. هنا صارحه السادات فقال: يا ابني أنا فلاح من المنوفية، والفلاح هناك إذا امتلك قطعة من الأرض، فإن أول شيء يفعله هو أن يدق حديدة عند أول الأرض وحديدة أخرى عند آخرها، وهذا بالضبط ما أريد كمفاوض لمناحم بيغن أن أصل إليه وأن أفعله.
كان فلاحاً منوفياً يريد أرضه في حوزته، ويريد أن يكون أول الأرض معروفاً له ولغيره وكذلك نهايتها، وما عدا حدودها تتبقى تفاصيل لا صعوبة في التعامل معها في مرحلة لاحقة.
روى لي السفير منير زهران، الذي أصدر مؤخراً مذكراته السياسية «شاهد على الدبلوماسية المصرية في نصف قرن»، أن مسؤولاً إسرائيلياً زار السادات في الإسماعيلية ذات يوم، وأنه كان قد جاء يطلب الإذن لكتيبة إسرائيلية بالتنقيب عن بقايا الضحايا الإسرائيليين في أرض سيناء. كان ذلك في أثناء مفاوضات كامب ديفيد، وكان صاحب الطلب يعرضه على استحياء، وكان يشك في إمكانية أن يصادف طلبه قبولاً، ولكنه فوجئ بأن السادات يبلغه بأنه لا مانع عنده من مجيء كتيبتين لا كتيبة واحدة!
وتفسير السفير زهران لسخاء السادات في الاستجابة للطلب، أنه كان يريد أن يفهم الإسرائيليون أنه لا يخاف منهم ولا يخشاهم، وأنه لو كان يخافهم أو يخشاهم ما كان قد دخل معهم في مواجهة عسكرية جعلت غولدا مائير تصرخ وتستغيث!
ولو عاشت جيهان السادات إلى ذكرى النصر في هذه السنة لكانت قد روت ما عاشت ترويه عن اعتقالات سبتمبر (أيلول) 1981 وعن رد فعل الرجل عندما ذهبت إليه تطلب استثناء بعض الذين تعرفهم من قائمة الاعتقالات التي سبقت رحيله بأربعة أسابيع.
كان تقديره أن كل هؤلاء الذين شملتهم القائمة يهاجمون حكومة بيغن في تل أبيب سياسيا، وأن هذه الحكومة في حد ذاتها لا تهمه في كثير ولا في قليل، وأن ما يهمه حقاً أن يتمسح بيغن في حملات الهجوم الواسع عليه وعلى حكومته في الصحافة المصرية، ويجدها فرصة سانحة يبحث عنها بطبيعته للتحلل من التزاماته بإعادة ما بقي من سيناء!
ولكن جيهان السادات كانت تواصل الوساطة عنده، وكان السبب أن القائمة ضمت عدداً من أساتذتها في جامعة القاهرة، وأراد هو أن يحسم الأمر لعلها تتوقف عن ضغوطها، فأفهمها أنه سيدوس على ابنهما جمال نفسه، إذا وجده عقبة في الطريق إلى الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) 1982!
كان ذلك اليوم هو موعد آخر مرحلة من مراحل الانسحاب الإسرائيلي، وكان السادات يقول إن المعتقلين جميعاً سيخرجون في مساء اليوم نفسه، وكان يراه منتهى أمله في الحياة، وكثيرون ممن كانوا قريبين منه قالوا ويقولون إنه كان يفكر في اعتزال العمل السياسي باكتمال الانسحاب في ذلك اليوم، وإنه كان يراه توقيتاً مناسباً للتقاعد مكتفياً من المجد بأنه حرر الأرض، وأنه فعل ذلك بالحرب مرة وبالسلام مرة ثانية، وأن هذا يكفيه عند أي تقييم موضوعي ويزيد!
ولكن القدر شاء أن يحرمه من أن يعيش ليشهد يوماً ظل ينتظره ويتطلع إليه بكل الشوق، فمات الرجل وفي نفسه شيء من مناسبة عزيزة عاش يراها أمام عينيه، ولكنه كان يتمنى أن يمسكها بيديه.
كان هو في مقدمة الذين فهموا الأميركان والإسرائيليين، وكان في مقدمة الذين عرفوا كيف يتعاملون مع الاثنين، ولهذا استرد أرضه بالحرب ثم استكملها بالسلام، ولم يكن يسمح لأحد بأن يعطله عن الوصول إلى هدفه، حتى ولو كان هذا الأحد هو ابنه جمال!
ولكنّ كثيرين ممن عاشوا حوله في القاهرة وفي عواصم المنطقة حوله لم يفهموه في وقته، وبعضهم راح يفهمه لاحقاً بأثر رجعي، وكان الدكتور سعد الدين إبراهيم من بين أول الذين فعلوا ذلك، فلم يجد حرجاً بعد رحيله في أن ينشر كتاباً عنوانه: رد الاعتبار للسادات!
7:44 دقيقه
TT
شيء من رائحة السادات!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة