بدءاً من اليوم تحتفل الصالات البريطانية بفيلم جيمس بوند الخامس والعشرين «لا وقت للموت» Np Time to Die. الجمهور ينتظر الفيلم وصالات السينما تنتظر الجمهور الذي، حسب تأكيد شركة مترو غولدوين ماير ويونيفرسال (تتقاسمان توزيع الفيلم) لن يشهد عروضاً منزلية. بذلك، فإن كل العيون شاخصة، كما كانت العادة في زمن غير بعيد، على صالات السينما وبوند وهواته.
لا مؤشرات لخيبة أمل هنا. الفيلم الذي كان من المنتظر عرضه قبل أكثر من عام، يستفيد من التأجيل المتواصل الذي تسبب به «كورونا». الجمهور الذي لم يجرؤ سابقاً على حضور الأفلام في دور العرض الكبيرة تحمّس مؤخراً وارتاد Dune وShang - Chi and the Legend of Ten Rings بكثافة. طموح صانعي «لا وقت للموت» هو أن 100 مليون دولار في الويك إند الأول في عملياته الأوروبية، وهو افتتح فعلاً في سويسرا وموناكو وبلجيكا وكوريا الجنوبية وألمانيا والبرتغال وهونغ كونغ ونحو خمسة عشر سوقاً أخرى. ويكمل دائرة عروضه العالمية في السابع من هذا الشهر في كل من الولايات المتحدة والسعودية وآيسلندا وفرنسا والإمارات العربية المتحدة ومصر ودول أخرى.
بين الحياة والموت
لو كان هناك عنوان آخر مناسب للفيلم فهو «لا وقت للانتظار»، هذا لأن الكثير جداً مرهون بحجم الإقبال الجماهيري الذي سيحققه الفيلم الذي بلغت ميزانيّته 250 مليون دولار ووقف وراء تحقيقه كاري جوجي فوكوناغا الذي لم يحقق أفلاماً بهذا الحجم من قبل (أكبر نجاح له كان Beasts of No Nation الذي لم تزد ميزانيّته، سنة 2015، عن 6 ملايين دولار). فوكوناغا ليس لديه عقد لفيلم بوندي جديد، كذلك بطل الفيلم دانيال كريغ الذي يختم في هذا الفيلم خمس دورات بدأت سنة 2006 بفيلم Casino Royale.
العنوان بحد ذاته مُثير كون كلمة «موت» ترددت أربع مرّات في عناوين أفلام بوند. كان هناك «عش ودع الموت» (1973) و«الغد لا يموت أبداً» (1997) و«مت في يوم آخر» (2002) والآن «لا وقت للموت».
الكلمة المناقضة للموت هي «الحياة»، بمعنى العيش طويلاً وهذه ظهرت في «أنت تحيا مرتين فقط» (1967) و«عش ودع الموت» (1973) وهذا من دون أن نحسب The Living Daylight (أو «النهار الحي» 1987).
على أن هذا المنوال، على خفّته ليس كل ما تتميّز به شخصية بوند. من البداية والعميل الذي يتسلح برخصة تتيح له قتل من يريد، وهو يواجه أشراراً كباراً إما يحتمون بمؤسسات عملاقة وخفية أو لديهم منظماتهم التي تعمل على ضرب دول العالم بعضها ببعض.
خلال هذه المواجهة هناك المطاردات والتقنيات والنساء والسيارات والمشاهد المعتنى بها والتي تسبق عناوين الفيلم وحكايته. من عام 1962 وإلى اليوم وفي 25 فيلماً متوالياً بعضها - بطبيعة الحال - أفضل من بعض نجا بوند من كل مؤامرة وقلب الطاولة على كل متآمر. الفيلم الجديد لا يختلف في أي من هذه العناصر السابقة ولا في عدد المرّات التي سينجو فيها بوند من القتل.
في الحقيقة هناك ذلك المشهد التي يمطر فيها أحد المسلحين سيارة بوند عن مسافة قريبة بالرصاص وبوند في الداخل لا تصبه أي رصاصة. طبعاً سيضيق ذرعاً بالمهاجم ويطيح به بعد ثوان.
ما هو مختلف، وهو اختلف منذ سنوات، أن مغازلات بوند لنساء العالم الجميلات لم تعد شاغله. أي منا يستطيع العودة إلى بوند الأول كما أداه كونيري أو مور أو تيموثي دالتون ليرى عميلاً مختلفاً يوزّع وقته بين القتل والمضاجعة. وصول دانيال كريغ للدور تم في زمن اجتماعي تغيّرت فيه المفاهيم وأصبح من المؤذي تصوير النساء كمجرد متعة متاحة لبوند. لذلك أفلام كريغ تخلو من هذا اللهو، إلا بمعدّل محدود، وكذلك فيلمه الجديد.
ما هو مختلف أيضاً، أن بوند صار خارج الخدمة. استقال من المخابرات البريطانية (ولو أن المرء قد يتساءل هل من الممكن لعميل متعدد المواهب الاستقالة من مؤسسة كهذه). وهو كان قرر أن يبقى مستقيلاً لكن صديقه الأميركي فيلكس ليتر (لعبه في الماضي أكثر من ممثل ويؤديه الآن جيفري رايت) يقصده ليضع بين يديه مشكلة كبيرة: هناك من سيستخدم تكنولوجيا فريدة وغير معهودة لإشعال فتيل حرب عالمية جديدة.
هذا بات معهوداً في أفلام كثيرة، لكن ليس بالطريقة ذاتها التي توفّرها أفلام بوند، والتي يوفّرها هذا الفيلم تحديداً. هناك ابتعاد متكامل عن الصورة التقليدية التي اعتادت عليها الأفلام السابقة. بوند بات شخصية تميل إلى الواقع اليوم (رغم جنوح الحكايات) مما كان عليه في السابق. الشخصية التي يؤديها كريغ صارت محسوبة وحاسبة. رقيقة وعميقة. تفكّر ملياً في أفعالها عوض أن تقوم بها فقط.
من بوند لماكبث
لا يعيب بوند الجديد أنه واقع في الحب. ولنا أن نقارن. في أفلام بوند السابقة كان الحب فعلاً جنسياً ينضوي قبل انتهاء الفيلم وفي مشهد نهائي مع «حب» آخر. المرّة الوحيدة التي شعر فيها بوند بحب حقيقي كان في فيلم On Her Majesty’s Secret Service سنة 1969. في ذلك الفيلم الذي قام بيتر هـ. هنتر بتحقيقه و(الأسترالي) جورج لازنبي ببطولته يقع بوند في الحب ويؤكد رغبته بالزواج ممن يحب. بوند يتزوّج؟ هذا كان تحدياً للجمهور الذي لم يرضَ عن هذا التحوّل ولم يرضَ عن لازنبي أيضاً. لازنبي ورد بين فيلمين من بطولة شون كونيري هما You Only Live Twice وDiamonds Are Forever. روجر مور تسلم المهام بعد هذا الفيلم الأخير مباشرة بفيلم Live and Let Die
بالعودة إلى الفيلم الحالي، وبينما الصراع ما زال دائراً في عالم من الأخيار العنيفين (يمثّله بوند) والأشرار الأكثر عنفاً (رامي مالك). الجديد هنا هو أن الشرير سافين (مالك) كان على علاقة سابقة بمن وقع بوند في حبها في الفيلم السابق «سبكتر» (الفرنسية ليا سيدو)، وهذا يجعل الصراع بينهما مزدوجاً. هو من ناحية صراع الخير ضد الشر، ومن ناحية أخرى صراع شخصي بين غرام وانتقام.
اختيار مالك لدور الشرير (هناك شرير آخر يقبع في السجن هو كريستوف فولتز بعدما قام بوند بالتغلّب عليه في «سبكتر») يبدو غريباً للغاية. مالك، حتى الآن لديه نصر واحد مؤكد هو تمثيله شخصية فردي مركوري مغني فرقة Queen وذلك في Bohemian Rhapsody قبل ثلاثة أعوام. بعد ذلك أخفق في الوصول إلى أداء يترك انطباعاً قوياً. شاهدناه في مطلع هذا العام في «الأشياء الصغيرة» (The Little Things) غير مقنع ولو أنه متفان في محاولاته. وهو غير مقنع هنا خصوصاً أن السيناريو ليس لديه الكثير مما يوفره من عمق أو من أحداث تميّزه ولا هو قادر على أن يتميّز بنفسه.
بالنسبة لدانيال كريغ وبعد أن ساهم في تحديث شخصية بوند حاملاً إياها لأفق جديد غير مطروق (وغير كاريكاتيري) فإن هذه الدورة الأخيرة ستتيح له الاكتفاء بمشاريع بعيدة كل البعد عن منوال بوند. وأول الغيث دور ماكبث في اقتباس مسرحي جديد على خشبة برودواي.