سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

السر المفتوح

تغني فيروز طقطوقة تشكو فيها صاحبتها من معجب يلاحقها ويوزع إشارات مقصودة تكاد تفضح الحكاية: «سمّى الجيرة (الجوار)- وسمّى الحي (الحارة)- ولولا شوية سمّاني». لم أجد أنسب من هذه الطقطوقة درساً في العلوم السياسية، أو العسكرية عندما عددت روسيا وإثيوبيا الاتفاق على تطوير وتحديث مقررات القوى المسلحة (الإثيوبية)، لكنها توقفت من دون تسمية ذلك «معاهدة عسكرية»، أو «معاهدة سلام»، كما كانت هذه الاتفاقات تسمّى زمن الاتحاد السوفياتي ومصطلحاته.
لم تعد المصطلحات التقنية مستساغة، لكن كرملين بوتين - لافروف لم يعثر على بديل مقبول حتى الآن. لذلك، لا يزال الثنائي الجديد حائراً في إدارة المكاسب القديمة والإرث المستجد. وهكذا اضطرت موسكو في الآونة الأخيرة لأن تقوم بعرض بهلواني سياسي فائق يشبه «سيرك تستفوني بوليفارد» لكي لا تفقد أحداً في هذا المثلث: مصر، إثيوبيا، السودان، فيما الدول الثلاث تخوض «حرب الأهرامات المائية» في سد النهضة، من منطلق «حرب الموت أو الحياة» والملء بالماء أو المتفجرات.
طبيعي أن موسكو تريد الكرات الثلاث: القواعد العسكرية في السودان، وتدريب الجيش الإثيوبي، وصداقة مصر التي كانت أقرب الدول العربية إلى موسكو في لحظة واحدة أذلّتها بطرد «الخبراء السوفيات». نحو 25 ألفاً منهم.
مشكلة فلاديمير بوتين أنه ذاهب إلى المستقبل بمنطق الماضي ووسائله ولغته: يقلّد بطرس الأكبر في سوريا على المتوسط، ونقولا الثاني في القرم، وخروشوف في مصر، وليونيد بريجينيف في السودان، وأليكسي كوسيغن في إثيوبيا.
صعبة قليلاً، عمّ فلاديمير (وليس العم فانيا). لقد اختلف العالم كثيراً عن أيام سميَّك، يا فلاديمير فلاديموريفتش. ألم ترَ إلى أن الزائر السوداني، سيدة تدعى مريم الصادق المهدي؟ يوم جاء والدها رئيساً للوزراء مباشرةً من أوكسفورد، عدّ العالم ذلك حدثاً في أفريقيا العربية الإسلامية. فكيف بابنته اليوم؟ معقّدة، أيها الرفيق: أن تتمكن من الحفاظ على صداقة قديمة واحدة مع ثلاث دول على حرب، حول نيل واحد، وسد واحد، وحياة أو موت، واحدَين أيضاً.
لا أريد أن أبسِّط المسألة كثيراً. كفى لجوءاً إلى الطقاطيق في زمن الجد الشديد. لكن من تجاربنا في حياة القرى فإن أهلها كانوا يصلون إلى مرحلة القتال في حالة واحدة: الخلاف على المياه. لقد سمّينا الجوار والحارة والأحرف الأولى من الاتفاق الروسي – الإثيوبي. وما هي إلاّ «شوية» ويطلق عليه اسمه الحقيقي: السد المفتوح!