د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الإنسانيّة في متاهة الفيروسات

إلى حدود بضعة أشهر أخيرة كانت خطة مقاومة «كوفيد - 19» شبه واضحة: إجراءات الوقاية هي واجب كل الأشخاص، في حين أن مسؤولية الدول تتمثل في تلقيح الشعوب أكثر ما يمكن. هكذا تم الاتفاق على وصفة مقاومة جائحة «كورونا». وفي ضوء هذه الوصفة أيضاً احتدمت المنافسة بين الدول لجلب اللقاح وتأمين شر الفيروس الذي أودى بحياة أكثر من 4 ملايين شخص على مستوى العالم.
طبعاً، أظهر الواقع أن الالتزام بهذه الوصفة اختلف من دولة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر. كما بات واضحاً بعد شيء من التجربة أن الحرب على «كورونا» تستوجب الاستقرار ودولة قوية وإمكانات مادية وبنية صحية قادرة على الصمود ووعياً شعبياً عالي الدرجة.
ليس مجال اهتمامنا في هذه المقالة الحديث عن مدى الالتزام بالوصفة ومعوقات الاستجابة لشروطها، بل إن ما يعنينا دخول العالم في مرحلة سريالية من الحرب ضد «كورونا»، حيث إنه في كل مرة نفاجأ بسلالة جديدة أكثر شراسة مما سبقها، وآخرها الفيروس المتحول السلالة الكاليفورنية التي قيل في شأنها إن التلقيح لا يجدي معها نفعاً. ذلك أن هذه السلالة - حسب المختصين - لها قدرة على مقاومة الأجسام المضادة التي ينتجها لقاح فيروس كورونا في جسم الإنسان، إضافة إلى أن السلالة الكاليفورنية تتميز بالسرعة الكبيرة في الانتشار وباستهدافها جميع الشرائح العمرية، ويقال إن لها ثلاث طفرات أخرى.
كما أن المتحول «دلتا» منذ أسابيع وهو يبعثر الأوراق والمعلومات والتدابير ويقودنا إلى حالة من العبثية وعدم الفهم. فالتلاقيح التي يستعملها العالم في الوقت الراهن غير قادرة على توفير المناعة التي نستطيع بموجبها مقاومة شتى السلالات الممكنة من الفيروس.
لا شك في أن التلقيح لا يمنع حدوث الإصابة في حد ذاتها، ولكن المعلومة التي استقرت في الذهن والنفس وبسببها كان الانخراط في حملات التلقيح والمطالبة به، تتمثل في أن الذي يخضع للتلقيح ويتعرض للإصابة تكون إصابته محتملة ويتمكن الجسد من المقاومة وهزيمة الفيروس. غير أن حالات الوفيات بسبب المتحول «دلتا» أثبتت أن التلقيح غير صالح لكل السلالات المتحولة، وهذا الاستنتاج شكّل صدمة على الأقل للناس العاديين، وأكيد أنه حتى المختصون والعلماء الذين ابتكروا التلاقيح التي تستعمل للتصدي لـ«كورونا» لم يحسبوا قبل عام من الآن حساباً لمشكلة التحولات والسلالات الأقوى من التلقيح.
لقد تمكنت السلالات الجديدة وربما القادمة أيضاً من خلق حالة حقيقية من الارتباك ومن تكذيب بعض المعلومات، ومنها أنه ساد الاعتقاد أن الفيروس خطير على حياة كبار السن والمصابين بالأمراض المزمنة، ومعلومة أخرى كذلك بعثت الطمأنينة حول عدم وجود خطر على الأطفال والشباب. ولكن السلالات الأخيرة وحسب المثال التونسي مثلاً كانت قاسية على الأطفال وعلى الشباب أيضاً والأصحاء. بمعنى آخر، نلاحظ أن قوة السلالات الجديدة من فيروس كورونا أحدثت بلبلة حقيقية في مستوى المعلومات، وأحاطت ما جمعناه من معرفة نظرية بهذا الفيروس بكثير من التساؤلات والريبة والحيرة وكأننا عدنا إلى نقطة الصفر.
لا شك في أن فكرة ضرورة التعايش مع هذه الجائحة ليست هي محل طرحنا بقدر ما يتصل الموضوع بوهم السيطرة على الفيروس. فيكفي أن يزداد التأكد من أن لا فاعلية تذكر للتلاقيح الرائجة حالياً في مقاومة السلالتين «دلتا» و«كاليفورنيا» حتى يمكننا الاستنتاج أننا في حرب بلا أسلحة، وأنه على علماء الفيروسات في المخابر الدولية تجديد العزم والرهان على صحة الإنسان؛ لأنه لا فائدة من التركيز على هاجس الربح، والحال أنه يمكن لسلالات قادمة أن تحدث إبادة للإنسانية.
على ما يبدو أن الأمر أخطر من كل التوقعات والتدابير. فقد انخرطنا في حلقة مفرغة ما إن نحدد خطورة سلالة حتى تأتي أخرى. والمشكلة الأخرى هي إلى أي مدى يستطيع جسد الإنسان التأقلم مع التلاقيح إذا كان لا بد لكل سلالة من تلقيح يناسبها؟
الظاهر أن الخريطة الجينية مهددة بتغييرات لا أحد قادراً على التكهن بها من العلماء... من دون أن يفوتنا أنه قبل التوصل إلى التلقيح المناسب لكل سلالة فإن أرواحاً عدّة تكون قد أزهقت.
عندما نُعمل العقل مليّاً في عدد الوفيات في العالم بسبب جائحة «كورونا» ندرك حجم الخطر. ولمّا نعاين الدول التي اعتقدت أنها تقريباً طوّت صفحة الجائحة وألغت قرار وضع الكمامة في الفضاء العمومي، ثم داهمتها سلالة «دلتا» كما هو حال فرنسا... نعني أن الحسم غير ممكن على الأقل على المدى القصير.
ورغم كل هذه الأفكار القلقة، فإن الحل بيد العلماء واستيعاب الإنسانية لنمط الحياة الجديد الذي قد يطول إلى أجل غير مسمى. لذلك؛ فإن المطلوب من كل العالم التركيز فقط على الحرب ضد «كورونا»، وألا يهدأ في البحث عن سبل الوقاية والتحصين وتأجيل الصراعات والحروب لأن الحرب الجديرة بالخوض هي الحرب ضد السلالات الجديدة التي تقلب حساباتنا وتوقعاتنا رأساً على عقب. فالغنيمة الوحيدة في الوقت الراهن هي صحة الإنسانية المهددة في وجودها كماً ونوعاً.