في مسرحيته الجميلة «الشقيقات الثلاث» للكاتب الروسي الراحل أنطوان تشيخوف يقول أحد الأبطال «بعد مائتين أو ثلاثمائة سنة ستصبح الحياة على الأرض رائعة، مدهشة، بشكل لا يصدق. الإنسان بحاجة إلى هذه الحياة، فإذا لم تكن متوافرة، فعليه أن يتنبأ بها أن ينتظرها، يحلم بها، ويستعد لها، ومن أجل هذا عليه أن يرى ويعرف أكثر مما رآه وعرفه جده وأبوه».
وبعد حوار قصير مع زملائه يقول مرة أخرى: «إنني كثيرا ما أفكر: ماذا لو نستطيع أن نبدأ الحياة من جديد، وبوعي؟ لو أن الحياة الأولى، التي عشناها، كانت، كما يقال، مسودة، والحياة الثانية على بياض! أظن أن كلا منا سيحاول قبل كل شيء ألا يكرر نفسه، على الأقل سيحاول أن يخلق لنفسه ظروفا أخرى للحياة».
لم يكن تشيخوف هنا متشائما على الإطلاق، بل كان في قمة تفاؤله واعتقاده الراسخ أن الدنيا سوف تتغير إلى الأفضل، علما بأن هذا الكلام مضى عليه أكثر من مائة سنة.
في بعض الأوقات تشعر الحياة أنها تمضي نحو المستقبل، وهي مقبلة على حياة جديدة ومتطورة وعادلة يختفي فيها كل شيء قبيح وظالم وقاسٍ، لكنها في غمضة عين تتحول إلى شيء آخر تماما مثقل بالمآسي ومكبل بالحروب التي لا تنتهي، والضمير المعدوم والأشرار الذين ينتشرون في كل مكان وزمان.
لو سألت القارئ اليوم سؤالا بسيطا وهو: هل يعتقد أن العالم تغير إلى الأفضل كما تمنى تشيخوف أم أنه على العكس تحول إلى أسوأ ما لا يمكن حدوثه حتى في الأحلام؟
أعرف أن الإجابة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى مجلدات ومحاضرات وربما زمن طويل كي نعثر على ما نريد؟
لكن أليست الحقيقة تقول لنا اليوم إن عالمكم أيها البشر يختفي فيه كل شيء جميل مثلا، ويحل مكانه كل نقيض. فقد كانت هناك قبل عشرات السنين أشياء مثل الحروب الباردة والسلام الدائم، واليوم والحمد لله وبفضل ما حدث من تطور صارت الحروب تبدأ وتنتهي على أتفه الأسباب، وبينما كانت الجيوش تتقاتل في الجبهات والميادين البعيدة، نراها اليوم متوفرة بكثرة بحيث إنها تطلق الصواريخ والمدافع من الشوارع والأحياء داخل القرى.
لا أريد أن أكون اليوم متشائما أكثر من اللازم ولا متفائلا حالما مثل تشيخوف، لذلك أعترف بأن هناك أشياء جميلة حدثت في الحياة وتقدمت بنا كبشر مثل التكنولوجيا والطب والمواصلات وغيرها، لكن هناك مع الأسف أشياء جميلة غادرت حياتنا بكل سهولة لمجرد انتشار التخلف والهمجية والتعصب والطائفية طبعا.
الدنيا تغيرت وتغيرت، وأصاب البشر وأخطأوا، وتقدم بعض الناس وتخلف غيرهم أكثر من الماضي. فلم تستطع كل هذه المنظمات الدولية في العالم أن توحد الناس وتنقذهم من الشرور والمصائب والكراهية. فبقي البشر عندنا منقسمين؛ بعضهم يتطور إلى الأفضل، وغيرهم يتراجع مليون خطوة إلى الوراء دون أن يشعر أن حذاءه صار يسير إلى الخلف، بل إن الكثيرين اليوم صاروا مختلفين حول حتى تخلفهم، ويتناقشون علنا في أي نوع من التخلف نريد وأي شكل من الهمجية والكراهية والأحقاد نفضل أن نعيش بها!
لو خرج تشيخوف اليوم من قبره لقال كلاما آخر وبلا تردد!
7:52 دقيقه
TT
البداية من جديد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة