عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

التكفير السياسي للخصوم

محكمة الاستئناف الإنجليزية انتصرت لسيدة كانت محكمة العمل والتوظيف ثبتت قرار فصلها لتعبيرها في تغريدة «تويترية»، عن رأي مخالف لمؤسسة العمل. أهمية حكم الاستئناف تتجاوز المضمون (حرية الرأي والفكر كمكون أساسي للديمقراطية) إلى التوقيت، حيث بلغت الحرب الثقافية أوجها، وأجبرت أقلية من الصفوة والطبقات الميسورة، الأغلبية على الصمت والخضوع خوفاً من فقدان الرزق.
مايا فورستاتر (في السابعة والأربعين) من جيل ما قبل هستيريا إخراس من يخالفهم الرأي وإعادة كتابة التاريخ، عملت خبيرةَ ضرائب في خزانة تفكير «مركز التنمية الدولية». ويتضح من الاسم أن اتجاهات المؤسسة ومفاهيمها ليبرالية يسارية، وبالتالي تتبع الموضات الجديدة في البيئة وقضايا اليسار، التي تجبر المنظمات الدولية والحكومات على تمويلها؛ لكنه يبين أيضاً أن السيدة نفسها لا بد أنها تؤمن بمبادئ المساواة، ومساعدة البلدان النامية والشعوب الفقيرة، ولا تحمل أفكاراً عنصرية أو تحتقر الآخرين. ولو كانت تسعى لجاه أو مال لكانت عملت خبيرة أو مستشارة لدى الأثرياء والشركات متعددة الجنسية التي تتهرب من الضرائب وتحقق أرباحاً تصل المليارات. كان المركز رفض تجديد عقد عملها السنوي تلقائياً كالمعتاد، في 2019 لأنها عبرت في تغريدة خارج أوقات العمل عما تدركه غالبية الشعب والأطباء (وإن كانوا ممنوعين من الإفصاح به) وهو أن (من ولد ذكراً بالكروموزومات «إكس» و«واي») لا يمكن أن يصبح امرأة، لأنه طبيعياً لا يستطيع الحمل والولادة. القانون الجديد تجاوز التعريف الطبي الأقدم للتحول الجنسي (بالجراحة والعلاج بهرمونات الجنس الآخر وحبس هرمونات الجنس الأصلي)، إذ لا يشترط علاجاً أو شهادة طبية، مانحاً الفرد حرية اختيار الجنس «رجل» أو «امرأة» أو «عدم محدد»، أو أي هوية جديدة تواجه فقهاء القانون بتحديات غير مسبوقة.
فجر الجدل صداماً بين المتحولين والمثليين في ناحية، وبين مجموعة أخرى راديكالية تاريخياً وهي الحركة النسوية، التي تخلت (في هذا الخلاف فقط) عن تطرفها المعتاد لصالح المنطق الطبيعي بشأن شعور النساء البيولوجيات بالأمان. القانون الجديد يسمح للنساء المستحدثات باختيارهن (أي الرجال بيولوجياً لكنهم اختاروا هوية نسائية) باستخدام الحمامات، وغرف تغيير الملابس والمراحيض العامة المخصصة للنساء، ما يقلق غالبية السيدات والبنات لأسباب بديهية.
الموقف المتطرف لهذه المجموعات، احتضنه اليسار البريطاني المسيطر على المنصات التعبيرية ومؤسسات صنع الرأي العام، ما جعله العرف المقبول، ويشجب ويدين من يخالفه، بل ويمنع استطلاعات الرأي الرسمية حول الموضوع (الاستطلاعات الخاصة تبين أن الأغلبية ترفض «العرف المقبول»). كما يرفضون «مكاناً وسطاً» كحمام ثالث بجانب المتعارف عليهما «رجال» و«سيدات»، (ويطالبون بإلغاء التعبيرين أيضاً). قبلها غرد أحدهم بـ«تويتر» ضد مصلحة السكة الحديدية، فإعلان السائق عند تحرك القطار: «صباح الخير أيتها السيدات والسادة، والبنات والأولاد، الآن نغلق الأبواب» أهان وجرح مشاعر الشاكية أو الشاكي (فالاسم مذكر، والله أعلم) وهو دون العشرين لأن جنسه «متنوع ومتغير» حسب تغريدته-ها، وبالتالي فهو لا سيدة، أو سيد، أو بنت أو ولد.
محكمة الاستئناف أفتت بخطأ محكمة العمل في تفسيرها قانون المساواة، لأن السيدة فورستاتر لم تأت بفعل أو تتخذ إجراءً يؤذي المتحولين جنسياً، عضوياً أو نفسياً، ولم تمنعهم من أداء عملهم، أو تضر بهم مادياً، لأن القانون نفسه يمنحها حرية الاعتقاد والتعبير مهما كانت آراؤها غير ملائمة مع ما يعتقده الرأي العام صواباً.
أهمية توقيت الحكم صدوره ثلاثة أيام بعد إثارة اتحاد طلاب كلية ماجدلين العريقة في جامعة أكسفورد امتعاض الرأي العام، واحتجاج وزير المعارف، غافين ويليامسون، بتصويتهم بإزالة صورة الملكة إليزابيث الثانية من قاعة الاجتماعات المركزية في المبنى. السبب في رأيهم «جعل القاعة أكثر ترحيباً وأقل إهانة لمشاعر الأقليات.....لأن صورة الملكة ترتبط بالتاريخ الاستعماري». وقال المتحدث باسم الطلبة إن التصويت تم بحرية وديمقراطية.
المنطق الجدلي فاسد، وهو أمر يدعو للانزعاج إذا كان طلاب أعرق جامعات العالم، وبعضهم يدرس الفلسفة، يفكر بهذه الذهنية. وحتى إذا صدقوا الاعتقاد الخاطئ (فالملكة هي رأس الدولة في الكثير من بلدان مستقلة كانت مستعمرات سابقة) فلم يظهر في محضر الاجتماع مثلاً إثارة مسألة ماذا كانوا سيمتنعون عن استخدام طوابع البريد والنقود، لأنها كلها، ورقية ومعدنية، تحمل صورة الملكة؟
وكما كررنا سابقاً، الجيل الجديد من الصحافيين يسهم في تضليل الرأي العام بالإخفاق عن طرح السؤال المناسب في الوقت المناسب، فربما يكون التصويت على الإجراء السخيف (والمهين لمشاعر أغلبية البريطانيين) قد تم بالإجماع، لكن هل نوقش الأمر بحرية وسمح لكل الآراء المخالفة للشعار الغوغائي بالتعبير؟
بالطبع لا، حيث لا وجود لأي رأي مخالف في محضر الاجتماع (وهو ما لم تلاحظه عيون الصحافيين المدققة)!
تيار اليسار المتطرف (الذي أصبح البديل الدولي للاتحاد السوفياتي في الحرب الثقافية التي حلت محل الحرب الباردة) بالاحتجاجات الصاخبة وترهيب المخالفين لا يسمح للآراء الأخرى بدخول حلبة المناقشة قبل طرح الأمر للتصويت ويسكتون من يخالفهم بتهم كالعنصرية، والإسلاموفوبيا، والزينوفوبيا (معاداة الأجانب)، والهوموفوبيا (معاداة المثليين) والميسوجينية، (معاداة المرأة) على سبيل المثال لا الحصر.
الديمقراطية التقليدية تعني الجدل بالتعايش مع الأقطاب الذين نخالفهم الرأي وأسلوب الحياة، ونظل على الصداقة والاحترام المتبادلين. الممارسات في قاعات المحاكم البريطانية وبرلمان وستمنستر خلافية تخاصمية. ويجلس الجانبان حكومة ومعارضة متواجهين، ويسخر زعيم المعارضة من رئيس الحكومة (والعكس) بعبارت تؤدي إلى إسالة الدم في بلدان أخرى (برلماناتها كقاعة محاضرات تلقي فيها المنصة الدروس على النواب)، ويتقبلها الجميع مستحسنين لباقة المتحدث.
المأزق الذي وقعت فيه حركة مساواة المثليين والمتحولين جنسياً، أنها ترفض الدخول في مناظرات مفتوحة، وتريد منع من يخالفها الرأي من التعبير، وهو ما حدث مع السيدة فورستاتر. وربما نتفهم الأمر بالنسبة لحركات شعبوية ترهب الساسة اللاهثين وراء الصوت الانتخابي بالمظاهرات العنيفة، لكن المرحلة الجامعية أمر مختلف، فهي توسيع للأفق وسبر أغوار ما يناقض المعتقدات السائدة؛ فاكتشاف غاليلليو (1564 - 1642) دوران الأرض حول الشمس كان كفراً وقتها. دراسة الجامعة، خصوصاً أكسفورد، تقليدياً تدريب على كسب الجدل بالحجة لا الصوت العالي وتكفير الخصوم.